صناعة الخميني.. سيناريو قصة بدأت تحاك منذ 1975

صناعة الخميني.. سيناريو قصة بدأت تحاك منذ 1975

لم يكن آية الله الخميني، قبل قيام الثورة والإطاحة بالشاه، رجلا خارقا أو ذا حسب ونسب، لكن صناع زعامته حبكوا قصة حياته وسيرته لتناسب مكانته الجديدة داخل إيران. منذ بدأ حياته في بلاده مرورا بمكوثه في مدينة النجف العراقية وصولا إلى فرنسا أين استقر، لم يظهر مؤشرات استثنائية، لكن من عمل على إحداث تغيير في إيران نسج الحكاية التي نقلته من رجل دين عادي إلى آية الله العظمى والإمام ثم المرشد. وهنا يعد كتاب “الخميني في فرنسا الأكاذيب الكبرى والحقَّائق الموثقة حول قصة حياته وحادثة الثَّورة”، لهوشنك نهاوندي، وثيقة تاريخية نوعية تكشف الكثير من الحقائق المخفية عن المرحلة التي سبقت الثورة بكل ظروفها وملابساتها الداخلية والخارجية، خاصة في ما يتعلق بصناعة قصة الخميني التي اشترك في صياغتها سياسيون وإعلاميون، وكيف تلاقت مع وقوع الخيار التوافقي الغربي السوفيتي عليه ليكون عنوان الثورة وقائد إيران بديلا لنظام الشاه، الذي كان يعاني حالة من التفكك والانهيار.

صارت قضية صناعة روح الله الخميني، بعد ظهور دراسات عديدة تناولت حياته وصعوده المفاجئ، حقيقة لا تخمين أو اختلاق أعداء. فالرجل بدأ حياته السياسية سنة 1963، كأحد رجال الدين المعترضين على إجراءات الثورة البيضاء، التي بدأها النظام الشاهنشاهي، وتقرر فيها على وجه الخصوص توزيع الأراضي على الفلاحين على حساب الإقطاعيين وشراكة العُمال في المصانع والمعامل، ومنح النساء حق الانتخاب والترشح للانتخابات، فوجد رجال الدين الثوريين في الإجراء حجة أو عذرا للدفاع عن الدين، فخروج المرأة إلى الانتخاب ومساهمتها في العمل السياسي والحزبي يعرضها إلى مخالفة الإسلام، كذلك فإن المساواة بين النساء والرجال يخالف الشريعة.

في كتابه “الخميني في فرنسا الأكاذيب الكبرى والحقائق الموثقة حول قصة حياته وحادثة الثورة”، ألف الكتاب أحد المساهمين في السياسة والإدارة الإيرانيتين في عهد الشاه هوشنك نهاوندي، صدر بالفرنسية (2010)، ثم بالعربية (2016) عن طريق “مركز الخليج العربي للدراسات الإيرانية”، اعتمد الكاتب على وثائق من العهدين الملكي والإسلامي، وعلى مقابلات مع أهل الشأن في الأحداث، فند العديد من المعلومات التي بالغ بها خصوم الخميني، لكنه في المقابل كشف عن مختلقات العهد الإسلامي.

نسج القصة
استعرض الكتاب حياة الخميني من إيران إلى النجف ثم إلى فرنسا حيث قصة الضاحية الباريسية نوفل لوشاتو، التي أقام فيها الخميني ومرافقوه، لنحو شهرين، وفيها نُسجت القصة التي نقلت الخميني من رجل دين عادي إلى آية الله العظمى والإمام ثم المرشد.

يصعب فهم أن القصة نسجت نفسها بنفسها من دون كاتب سيناريو، يتابع أدوار قصته أو روايته، لكنها تظهر كأنها تغيير طبيعي في الحكم، استحقه الخميني فرفع إلى عرش إيران، بكل سهولة.

بعد وصوله إلى باريس وجد الخميني نفسه إماما، وتحت تصرفه الإعلام الغربي والأميركي أيضا، فقد كانت البي.بي.سي الفارسية، والتي تذيع مِن لندن، تلفزيون الثورة، فأصبحت مهمتها إذاعة بيانات ورسائل الخميني يوما بيوم، مع تضخيم تفاصيل الثورة داخل إيران. أخذ يتقاطر على الخميني في نوفل لوشاتو كبار الصحافيين والإعلاميين والسياسيين، ممن لم يسمع به قبل وجوده في الضاحية الباريسية.

ذكر الكتاب أن السيناريو بدأ يحاك منذ 1975 بعد أن تصلب شاه إيران في رفع أسعار البترول، وأخذ يعد العدة للاكتفاء الذاتي في الكثير من البضائع ومنها الأسلحة، وأخذ لا يهتم بالمصالح الأميركية والأوروبية كالسابق، وبدأ يتحدث عن إيران عظمى قد تستغني عن القوة الغربية، إلى جانب أن الرئيس الفرنسي فاليري جيسكار ديستان لم يكن مرتاحا لشاه إيران، لأمور بروتوكولية حدثت لأكثر من مرة، لكن هذا لم يكن المؤثر الأول، بقدر ما أن القضية أبعد من هذا بكثير.

إلى جانب ذلك فإن اليسار الأوروبي على العموم، ينتصر لأي قوى تخالف العهد الملكي الإيراني، حتى وجدوا في الخميني الرجل الثوري، الذي يستحق الدعم، ومثلما صارت البي.بي.سي البريطانية قناة للثورة، أصبحت “لوموند” الفرنسية صحيفة الثورة، حيث تجري اللقاءات مع الخميني، وكان العرّاب حينها إبراهيم زادة، الذي كانت له صلة بالأميركان، ورافق الخميني من العراق إلى فرنسا، كذلك قام صادق قطب زادة وأبوالحسن بني صدر بدور المترجمين والوسطاء بين الفرنسيين والخميني.

على خلاف الواقع أخذت وسائل الإعلام الغربية تشير إلى الخميني بالإمام ورجل المرحلة، مع أنه لم يكن بالمستوى الفقهي الذي يمنحه لقب آية الله، وما حدث أنه عندما اعتقل عام 1963 وسُجن، اجتمع رجال الدين الكبار ومن بينهم محمد كاظم شريعتمداري، المرجع الكبير في زمانه والذي اعتقله الخميني بعد انتصار الثورة، ومنحوه درجة الاجتهاد، أي أصبح آية الله.

ظل الخميني، بعد وصوله النجف منسيا. وبما أن تغيير الحكم في إيران، والذي اُتخذ فيه قرار أميركي وغربي، يبحث عن قائد، فلم يكن أفضل ولا أسهل من تقديم شخص مثل الخميني، وبدأ الأمر من هناك، حتى وصل إلى باريس وضاحيتها نوفل لوشاتو.

وأُسدل الستار عن تاريخه السابق، بأنه ابن رجل هندي، ووالده رجل عادي، وعلى حين غرة أصبح والده ثوريا شهيدا على يد رضا بهلوي، ورجل دين كبير، وكان ضد الإقطاع والملكية، لكن الحقيقة أنه كان رجلا متواضعا، ولقبه “الهندي”، غير أن تاريخ الأسرة قد تبدل، حسب متطلبات مهمة الرجل الذي سيتولى قيادة الثورة، وهذا ما حصل بالفعل، فالثورة تحتاج إلى إمام وآية الله العظمى فكان كذلك.

كان مرض شاه إيران، الذي أخذ يتسرب إلى الأوساط السياسية سنة 1976، وكان قد بدأ معه قبل عام، حوَّل صاحبه بالتدريج إلى شخصية غير قادرة على مواجهة الحوادث الجسام، ولم يتخذ خطوات عملية لإنقاذ العرش من الانهيار.

بعد توليه الحكم في إيران كتبت سيرة ذاتية مزدانة بالتقديس، غير أن عهده ما لبث أن أعاد استنساخ الظلم والحيف

تحدث الكتاب عن دخول عناصر ثورية عربية وفلسطينية إلى إيران، ومساهمتها في بث الرعب عن طريق الاشتراك في التظاهرات، وممارسة القتل على أن المقتولين كانوا ضحايا رصاص النظام.

اعتمد المؤلف على مذكرات أحد قادة الحرس الثوري، والذي ساهم في التمهيد للثورة، حيث ذكر أن جماعة الخميني كانوا يأخذون الجنائز، بطرق عديدة، ويشيعونها على أنها ضحايا قوات الأمن، وذلك لإثارة الرأي العام، والقيام بحرق المؤسسات والتفجيرات، ومن أبرزها كان تفجير قاعة سينما في عبادان، والتي يرتادها جمع غفير من الإيرانيين، من نساء ورجال وأطفال، وقد أسفر هذا التفجير عن حرق مبنى السينما وحرق مَن في داخله، وهم كانوا أكثر مِن أربعمئة إنسان، وذلك في سنة 1978، وكان الغرض هزّ الثقة في النظام، واتهام النظام بالفعل.

حاول شاه إيران بطرق كثيرة إعادة الاستقرار، كي يتمكن من نقل العرش إلى ولي العهد، لكن المرض أخذ يتطور في جسده، والثورة قائمة. ومع أنه لم ينجح، حسب الكتاب، في اختيار رئيس وزراء مناسب للمرحلة، فالإصلاحات التي عمل على تركيزها رؤساء الوزراء الذين تناوبوا على رئاسة الوزراء، كل شهرين أو ثلاثة، لم تكن مجدية، بل جاءت متأخرة. غير أن شاه إيران ضيّع فرصة اختيار أحد قادة الجيش، المعروفين بحزمهم، لرئاسة الوزراء، بقدرته على ضبط حالة الطوارئ والأحكام العرفية التي أُعلنت، والتي لم تمنع من استمرار التظاهرات.

وحسب الكتاب دائما، كانت هناك مبالغة في أعداد المتظاهرين، بل إن الأعداد التي خرجت لتأييد الحكم الملكي لم تكن أقل من المحتجين المؤيدين للثورة، غير أن الأمور أخذت تسير نحو الانتكاسة.

بعدها رُشح لرئاسة الوزراء ابن الضابط الذي أعاد الشاه، بعد أن ترك إيران في عهد رئيس الوزراء محمد مصدق، وكان هذا زوج ابنة الشاه، من زوجته الملكة ثريا المصرية، إلا أن الصراعات داخل الأسرة الملكية، وميل الملكة فرح إلى بختيار آخر رئيس وزراء في العهد الملكي قد حسما الموقف، خاصة وأن بختيار نفسه لم يكن على وئام مع الأسرة الملكية.

لذا كان بختيار يفكر في إلغاء الملكية، لكن بطريقة أخرى، عن طريق دفع الشاه إلى الخروج من إيران، والتسوية مع الخميني.

تنسيق دولي لفرض الخميني
كان الخميني في النجف يتوسل لشاه إيران كي يعود إلى قمّ، ومن المؤكد أنه سيخضع لنظام الدولة، لكن الشاه، الذي لولا موافقته ما وصل الخميني إلى النجف، امتنع عن إعطائه الموافقة، من دون اكتراث بأهمية الخميني نفسه.

ظل التضخيم الثوري مستمرا للخميني، حتى أنه عندما توفي ولده مصطفى الخميني، بسبب السمنة ومرض السكري، أقاموا له داخل إيران مجلس عزاء ونعتوه بالشهيد، على أنه قتيل السافاك الإيرانية، والتي حلت محلها إطلاعات في النظام الإسلامي. غير أن الأمن الإيراني لم يسع لمنع مجالس العزاء التي أقامها أصحاب الخميني.

صاحب ذلك أن كانت العلاقات العراقية الإيرانية، قبل 1975، سيئة فأخذ النظام العراقي يستفيد من وجود الخميني كمعارضة وبالتنسيق مع الشيوعيين الإيرانيين، والذين اعترف بهم نظام الخميني في بداية الثورة، ثم قضى عليهم، وأخرج قادتهم على شاشة التلفزيون كعملاء للاتحاد السوفييتي، مع أنه حسب الكتاب كانت المخابرات الروسية تشجع نشاط آية الله، حيث جرى تنسيق مع الدولة العراقية القريبة من موسكو آنذاك.

أخذ يصل إلى ضاحية نوفل أعوان الخميني، ويحكي الكتاب عن وصول حسين منتظري، والذي هو الآخر أخذ رتبة آية الله، ومعلوم أنه كان تلميذا لدى الخميني والأخير لم يحصل على الاجتهاد، فكيف يلقب تلميذه بآية الله، وهي عادة تمنح للمجتهد في الفقه.

كان منتظري يأخذ مساعدة من إحدى الشخصيات القريبة جدا من القصر، أي أحد أقارب الملكة نفسها، يعطيها له كراتب تحت مسمى الزكاة أو الخمس والمساعدة، وعندما أراد السفر إلى باريس لجأ إلى هذه الشخصية للحصول على جواز وتذكرة سفر ومصروف جيب، وقد حصل على ذلك، وركب الطائرة إلى باريس، إلا أن أحد الركاب، لاحظ خفة هذا الشيخ وتوزيعه المكسرات والحلوى على الركاب، ثم عند نزوله استقبله رجال فرنسيون على باب الطائرة، وأخذوه حيث يقيم الخميني، فما سرّ ذلك؟

كان النقاش جاريا داخل القصر الملكي عن مغادرة الشاه إلى خارج إيران، لكنه كان يريد خروجا يحفظ به كرامته، حتى من دون التفكير في العودة، بينما لو أصبح غير بختيار رئيسا للوزراء لكان الأمر مختلفا. فقد اقترح محبو الشاه ألا يغادر إيران ويفقد العرش، وكان الجيش على أهبة الاستعداد لإعادة الأوضاع إلى نصابها، خصوصا وأن العديد من الإضرابات قد انتهت، وقد أعاد العمل في مؤسسات النفط في الأهواز والمؤسسات الأخرى، لكن شاه إيران ظل مصرا على عدم تدخل الجيش ضد المتظاهرين، فهو لا يريد المزيد من الدماء، وربّما حالة المرض فرضت عليه هذا الشعور، بينما جماعة الثورة كانت تقوم باغتيالات وتدمير للمؤسسات.

كان كل شيء يجري لصالح الخميني. وربما الخميني نفسه لم يصدق ما يحصل، فهو قد صرح في مقابلة له بأنه لن يتولى أي منصب حكومي، أو له شأن بالحكومة، وإنما سيبقى ناصحا مراقبا، فيما يتولى الحكومة أهل الاختصاص، كذلك تكلم عن الديمقراطية والانتخابات والعدالة الاجتماعية، وأنه بعيد عن الثأر والانتقام.

حصل أن غادر الشاه وأسرته طهران، وترك أمور البلاد تدار بيد شاهبور بختيار، وقد أراد هذا الأخير التحدث مع الخميني، وترك كبار رجال الدين في قُمّ، أولئك الذين كانوا يريدون وضعا دستوريا، والتقليل من صلاحيات الشاه، وليسوا مع تغيير النظام، لكن تسارع الأوضاع جعل هؤلاء غير مؤثرين، وسط الشحن الثوري، وتضخيم صورة الخميني إلى الحد الذي كانت تقال عنه شائعات بأنه المهدي المنتظر، حتى حصل ذلك عندما قال له أحدهم ذلك واكتفى بهز رأسه والالتفات، ولم ينف أو يزجر الرجل، فهذا لم يتوافق مع الفكر الشيعي عن المهدي، لكنه لحظات ويعلن نفسه نائبا للإمام.

انتهى كل شيء، وهبطت الطائرة الفرنسية بطهران، والتي دُبرت مِن قبل الحكومة الفرنسية، ليس كما نُشر أن العسكريين قد استقبلوا الخميني، إنما جرى التمثيل، بارتداء عناصر للملابس العسكرية، كي يُعطى تصور لدى الرأي العام بأن الجيش مع الخميني.

سقط النظام الملكي رسميا في فبراير 1979، وكان الإجراء الأول محاكمات صورية لكبار ضباط الجيش، أما مكان الإعدام فهو سقف البناية التي يقيم فيها آية الله أو الإمام، بعد أن كُتبت له سيرة ذاتية مزدانة بالتقديس والكرامات، فصار عهدا جديدا، غير أن الظلم الذي كانت تشكو وتبالغ فيه المعارضة تحول إلى السلطة الجديدة.

العرب