استفادت قوات النظام الإيراني والميليشيات التابعة لها من انشغال العالم بالقضايا الدولية الملحّة، لتنفيذ حملة واسعة من القتل والاعتقالات الجماعية ضد عرب الأحواز القاطنين في مدينة معشور (المعروفة أيضًا باسم بندر ماهشهر) التي تقع في منطقة الأحواز العربية في إيران. وقد حدث هذا الاستهداف كحلقة من سلسلة الفظائع المماثلة التي يرتكبها النظام للقضاء على الاحتجاجات المتنامية و المناوئة للنظام السياسي الإيراني في مختلف أنحاء البلاد.
تعود الاحتجاجات التي اندلعت في منطقة الأحواز أساساً إلى تردي الظروف المعيشية في منطقة تعاني من الفقر المدقع، والفساد الممنهج، وارتفاع معدلات البطالة، وعنصرية النظام و وحشيته ضد العرب. أمّا الشرارة التي أطلقتها تلك الاحتجاجات، فكانت الوفاة المشبوهة لشاعر أحوازيّ شاب، نتيجة عملية تسمّم، يُعتقد أنها حدثت عندما كان محتجزًا لدى النظام.
بدأت المظاهرات يوم الجمعة 8 تشرين الثاني/نوفمبر، حيث نزل مواطنو الأحواز إلى الشوارع في كلٍّ من مدينة خور موسى و معشور والكورة المترابطة. فكما أخبرنا أحد الناشطين المحليين في مجال حقوق الإنسان عبر البريد الإلكتروني، والذي تم حجب اسمه لحماية سلامته: يجب إعادة تسمية معشور، والكورة، والجراحي، وهي منطقة مترابطة، لتصبح “أرض الدم والنار”.
وبينما تُعرف معشور، والكورة والجراحي بكونها معقل صناعة البتروكيماويات في إيران، إلاّ أنها أصبحت مستهدفة من قبل النظام، خاصة بعد أن قام المحتجون هناك بإغلاق الطرق المؤدية إلى المنشآت البتروكيماوية والشركات الصناعية المملوكة للدولة في المنطقة بالإطارات المشتعلة. ولكن لم تُستهدف هذه المنشآت بسبب أهميتها للدولة فحسب، بل لأنها مكروهة على نطاق واسع في المنطقة، بسبب سياساتها العنصرية تجاه الشعوب. إذ تُظهر اللقطات المصورة من الهواتف المحمولة، التي تم الحصول عليها من المنطقة، المتظاهرين وهم يقومون بتحريك الحواجز جانبًا للسماح بمرور السيارات المدنية والمركبات الأخرى غير المرتبطة بصناعة النفط، مع منع مركبات الشركات البتروكيماوية فقط من الدخول والخروج.
وفي عرض أكاديمي حديث لورقة بحثية من المقرر نشرها قريبًا، أكَّد الباحث آرون إيتان ماير على أنه في فترة تعود إلى الخمسينيات من القرن الماضي، حددت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية الأحواز باعتبارها نقطة الضعف المحتملة لإيران، كونها تحتوي على موارد لا يمكن لأي نظام أن يحافظ على سيطرته من دونها. وهذا الواقع المرير هو أمر يفهمه الشعب الأحوازي جيداً.
وعلى الرغم من كون الاحتجاجات سلمية وغير عنيفة، إلاّ أنّ نجاح المحتجين في إيقاف عمل المنشآت البتروكيماوية لربما كان سببًا في إثارة غضب النظام بشكل أكبر، مما قد تفعله احتجاجات مماثلة في أماكن أخرى تطالب بالحرية والديمقراطية. فإن منطقة الأحواز تُعد موطنًا لأكثر من ٩٥٪ من موارد النفط والغاز التي يمتلكها النظام الإيراني، وبالتالي تشكّل ومن دون منازع مصدر الدخل المتبقي للنظام. فرداً على تلك الاحتجاجات التي تمثل تهديداً لشريان الحياة الاقتصادي، قام الحرس الثوري الإيراني بتنفيذ عمليات قتل وحشية بالدبابات والمدافع الرشاشة ضد المحتجين.
تدخلت الشرطة المحلية في المعشور بعد أسبوع من بدء الاحتجاجات، ومرة أخرى في اليوم التالي، ولكنها فشلت في تسوية الوضع بما يرضي النظام. وفي تلك المرحلة، قرر النظام بوضوح إطلاق العنان للقوة الغاشمة، مع نشر قوات خاصة في المنطقة يوم الأحد 17 تشرين الثاني/نوفمبر، دون أي محاولة جادة، -في غضون ذلك-، لنزع فتيل التوترات. وفتحت هذه القوات النار عشوائيًا على المتظاهرين في محاولة لترهيبهم وإرغامهم على التفرق، مما أسفر عن مقتل وإصابة عدد كبير من الأشخاص خلال ذلك. وعلى الرغم من ذلك، رفض المحتجون فض الاعتصامات.
ازدادت الهجمات في صباح اليوم التالي، حيث لاحظ المتظاهرون في بلدة الجراحي وصول أعداد كبيرة من قوات النظام المدججة بالسلاح، فضلاً عن الدبابات، والقوات البحرية التابعة للحرس الثوري الإيراني، و”كتيبة مالك الأشتر”، وأعضاء فرقة القوة الخاصة لمكافحة الإرهاب التابعة للنظام. يشار إلى أنّ هذه الفرقة الأخيرة تعمل بناءً على أوامر رؤساء وحدة “أمير المؤمنين” التابعة لقيادة الوحدات الخاصة التابعة لقوة إنفاذ القانون في جمهورية إيران الإسلامية. وكانت هذه القوات قد تجمعت لأول مرة في ميدان البعثة (يُسمّى بعثت في الفارسية) في البلدة، ثم انتقلت إلى ضواحي المدينة لاستهداف المحتجين مباشرة.
بعد ذلك، قام القادة العسكريون الذين يقودون قوات الحرس الثوري الإيراني بقيادة الكتائب إلى منطقة أهوار صغيرة متاخمة للطريق خارج البلدة والمعروفة محليًا باسم “هور الجراحي” حيث تجمّع المحتجون. وأفاد شهود عيان أن قوات الحرس الثوري الإيراني والميليشيات فتحت النار على المتظاهرين، وبدون مفاوضات، ومن بينهم عدد كبير من النساء والأطفال، باستخدام الرشاشات الثقيلة وأسلحة أخرى. فاختبأ بعض المتظاهرين بالأهوار بينما هرب آخرون إلى البلدة بحثًا عن مأوى فيها. تجدر الإشارة إلى أنّ إطلاق النار المكثّف على المتظاهرين في الأهوار قد بدأ عند الساعة العاشرة والنصف صباحًا تقريبًا واستمر لمدة أربع ساعات، ما أسفر عن سقوط الكثير من القتلى والجرحى.
وبعد أن أزالت بعضًا من جثث القتلى واعتقلت الجرحى، واحتجزت عددًا من المواطنين غير المتورطين في الاحتجاجات، دخلت قوات النظام بلدة الجراحي مجددًا بهدف قتل أو اعتقال بقية المحتجين. وتم إطلاق الرصاص على العديد منهم عشوائيًا ومن مسافة قريبة أثناء محاولتهم الفرار. وكان الكثير من المصابين مرعوبين لدرجة أنهم لم يلتمسوا أي علاج طبي، خشية أن يراقب النظام المستشفيات والصيدليات وأن يعتقل أي شخص يسعى للمعالجة من إصابات ناجمة عن طلقات نارية.
ومما زاد الطين بلة، أن نشطاء حقوق الإنسان في الأحواز أفادوا أيضًا أن النظام حاول اخذ الأموال من الأسر المفجوعة، واجبرهم على دفع ما يقارب أربعة ألاف دولار من أجل استعادة جثث أحبائهم، وفرض أيضا عليهم تكاليف الرصاص الذي استخدم لقتل أطفالهم وآبائهم وأزواجهم وزوجاتهم.
وقال شاهد عيان محلي: “عندما كان النظام يطلق النار بجنون على المحتجين في الأهوار القريبة، لم نسمع سوى صرخات الأطفال والنساء والمتظاهرين الشباب، ولكن بعد ساعة سكتت أصواتهم. وفي الصباح التالي، أضرم النظام النار في قصب الأهوار، وفاحت رائحة الجثث. فأتت آليات النظام وجمعت الجثث وأخذتها. وعندما بدأت الأسر المفجوعة في الخوض في الأهوار بحثًا عنهم، لم تجد سوى بقايا قماش ملابس أبنائها غارقة بالدماء، وصوت الذباب المتجمّع حول الدم ورائحة لحم الجثث المحترق وآثار دماء على القصب.”
وذكر شاهد العيان أنّ عائلات كثيرة قد سمعت المصابين وهم يصرخون وحاولت الإسراع لإنقاذ أحبائها في منطقة الأهوار، ولكنّ قوات النظام أطلقت النار عليها. هذا واستخدم الضباط مكبرات الصوت ليأمروا العائلات بالبقاء بعيدًا عن الأهوار. كما وتم حرق الكثير من المصابين، الذين كانوا ضعفاء وغير قادرين على الفرار، وهم أحياء.
وبعد ارتكاب هذه الفظائع في الجراحي، انتقلت قوات النظام إلى بلدة الكورة المجاورة التي تقع على بعد خمسة كيلومترات. وبدأت بمحاصرة البلدة بالدبابات، كما فتحت النيران على المتظاهرين الذين أغلقوا الطريق المؤدي إلى البلدة لإجبارهم على فضّ احتجاجاتهم والسماح لقوات النظام بالدخول. وعلى إثر ذلك، قُتل عدد كبير من المواطنين بمدافع الرشاشات الثقيلة، وحوصرت البلدة من الاثنين 18 تشرين الثاني/نوفمبر إلى الأربعاء 20 تشرين الثاني/نوفمبر.
وتدخّل رجل دين محلي، وهو الذي يؤمّ صلاة الجمعة في البلدة، وطلب من الحرس الثوري الإيراني عدم الدخول إلى المدينة من أجل نزع فتيل التوترات. وأفاد شهود عيان بأنّ كبار ضباط الحرس أخبروا رجل الدين بأنهم تلقوا تقارير عن وجود أعضاء من تنظيم “داعش” في المدينة، وأنه قد تمّ إرسالهم إلى هناك بناء على أوامر من مسؤولين رفيعي المستوى، مشيرين إلى رئيس الجمهورية الإسلامية حسن روحاني، وقيادة الحرس الثوري الإيراني، ومسؤولين في مجلس الأمن القومي. وبعدها، شرعت قوات النظام في تنفيذ عمليات قتل جماعية في البلدة، متذرّعة بالوجود المزعوم لتنظيم “داعش”، على الرغم من أنه لم يكن هناك أي وجود من هذا القبيل في المنطقة.
يُعد حميد شيخاني واحدًا من مئات المتظاهرين المقتولين، وتؤكد قصته على أن المجازر التي يرتكبها النظام لم تتوقف مع توقّف الاحتجاجات. لقد كان شيخاني رجلاً في الخامسة والثلاثين من عمره من منطقة الكورة، وكان متزوجًا وأبًا لطفلة صغيرة، وكان بطلاً وطنيًا في ألعاب القوى. وخلال الاحتجاجات، ذهب هو وشبان آخرون إلى ميدان القرآن مع غيرهم من الشباب للمشاركة في الاحتجاجات. وحسبما روى أحد أصدقائه الحادثة: “في يوم الاحتجاج، واجهنا فجأة أعدادًا هائلة من الآليات العسكرية مثل الدبابات. وكان حميد غاضبًا من وجود القوات، فركض نحو الدبابة، وخلع قميصه وهو يصرخ “أنظروا، نحن أشخاص عزّل، فلماذا تأتون بالدبابات؟ وبينما كان يصرخ، هاجمه عدد من قوات الحرس واعتقلوه، ثم أخذوه بعيدًا في سيارة.
وفي حين كان يتمتع بصحة جيدة عندما تم اعتقاله في 19 تشرين الثاني/نوفمبر، إلاّ أنّ أفرادًا من قوات النظام اتصلوا بأسرته في 23 تشرين الثاني/نوفمبر لإبلاغها بأن حميد تعرض لـ “نوبة قلبية” أثناء وجوده في السجن. وعندما استرجعت العائلة الجثمان، يقال إنهم عثروا على آثار لكدمات حول عنقه تدل على الخنق.
كما ارتكبت قوات النظام فظائع مشابهة ضد المتظاهرين في مدينة المحمرة، المعروفة باسم خرمشهر بالفارسية، وفي عبادان والفلاحية المعروفتين باسم شادكان وتستر، وفي رامز، وكذلك في عاصمة الإقليم، مدينة الأحواز. ومثلما حدث في سائر المناطق الأخرى، لعب الحرس الثوري الإيراني ورجال ميليشيات الباسيج سيّئي السمعة الذين يرتدون زيًا مدنيًا، دورًا رئيسيًا في ترويع المتظاهرين العزّل وقتلهم، وكذلك في حملة الاعتقالات الجماعية. وبلغ عدد الجرحى في مدينة الأحواز وحدها 140 جريحًا على الأقل، مع اعتقال أكثر من 1000 شخص. ولم يتم الأفراج سوى عن 150 شخصًا من المحتجزين، كما لم يتم الكشف لأسر المحتجزين الآخرين عن أي معلومات بشأن أماكن وجودهم. وبحسب ما ورد، فقد نُقل بعض المحتجزين إلى محافظات أخرى.
وقد أعرب الناشطون الغاضبون والمحبطون عن الشعور ذاته عندما أجريت معهم المقابلات. وتساءل أحدهم: “إن العرب يحتجون على هذا القمع، ففي أي بلد تستخدم الحكومة الدبابات والأسلحة الرشاشة لمواجهة الاحتجاجات الشعبية؟ ولكن أعود لأقول إنّ هذا هو النظام الإيراني، خالق أرض الجرائم، وحيث تم إحراق المحتجين العرب الشباب وهم أحياء في حقول القصب.”
إنّ ادعاءات ضابط النظام بأن مسؤولين في القيادة هم من أمروا بتلك الهجمات، تؤكد تورِّط النظام الإيراني في هذه الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية. ولابد من فهم هذه الهجمات الأخيرة على أنها جزء من الاستراتيجية المنهجية التي يتبناها النظام لإرهاب شعوب المنطقة بغية الرضوخ.
وفي حين تم قمع الاحتجاجات في أنحاء أخرى من إيران، في الوقت الحالي على الأقل، فإن آلاف المتظاهرين المصابين والمشوّهين، والمارة الأبرياء، ومن اعتقلوا بدون الكشف عن أي معلومات بشأن أماكن وجودهم، يذكرون نيران الإرهاب في منطقة الأحواز. إذ تُترك أسر المعتقلين بلا أمل، وفي خوف دائم من أن يتلقوا مكالمة هاتفية في منتصف الليل، تمامًا كما حصل مع أسرة حميد شيخاني، لإبلاغهم بأن أحباءهم الذين كانوا يتمتعون بصحة جيدة قد ماتوا لأسباب “طبيعية”، وهي أسباب بعيدة كلّ البعد عن ذلك.
العربي الجديد