عملت إيران على اتباع سياسة متعددة الأبعاد في العراق، اتخذت مسارات عدة، لبسط نفوذها وهيمنتها منذ سقوط نظام صدام حسين عام 2003، ففراغ القوة الذي أوجده الاحتلال الأميركي للعراق دفع إيران إلى التمدد على النحو الذي جعلها بعد أكثر من عشر سنوات، تتباهى بوجودها في أربع عواصم عربية، ولكن هل حقاً نجح السعي الإيراني في العراق على النحو الذي خلق هيمنة إيرانية كما تدعى؟ ويمكننا الوقوف على عدد من المؤشرات التي توضح استراتيجية إيران في العراق منذ عام 2003، وما الذي وصلت إليه حتى يمكن تقييم حقيقة نفوذها في بلاد الرافدين.
القوة الناعمة… والصلبة
واتبعت إيران سلوك الدولة المهيمنة والحامية للدول، من خلال سياسات تهدف إلى نشر القوة وممارستها عبر نقل قيمها ومعاييرها للتأثير في الشأن العراقي من خلال التحكم في التفضيلات والخيارات السياسية بما يتناسب والمصالح الإيرانية، كما وظفت أدوات القوة الناعمة كالأيدلوجيا وأدوات القوة الصلبة كالمساعدات الاقتصادية والعسكرية، فضلاً عن خلق نخبة عراقية رسمية وغير رسمية وشبه عسكرية على صلة قوية بها، بالإضافة إلى بناء نظام سياسي عراقي يشكل علاقتها بالنخبة العراقية الجديدة التي ظهرت بعد 2003 على النحو الذي يجعل السياسات العراقية لا تتعارض مع مصالحها.
وتدخلت إيران لإرساء الأمن وإدارة الصراعات بين الفصائل السياسية العراقية المتنافسة، كما تدخلت باعتبار أنها فاعل رئيس في العراق في جلسات الحوار مع الولايات المتحدة، قبل الانسحاب الأميركي من العراق، وتدخلت في الأزمة بين أكراد العراق وتركيا، فضلاً عن دورها في محاربة “داعش”.
وعلى الرغم من اعتماد إيران على المكون الشيعي في العلاقة بين البلدين، يمكن القول إن هناك بعض العوامل التي حالت دون تأسيس لحالة الهيمنة الإيرانية في العراق، منها الاختلاف والتفاوت بين الفصائل الشيعية، وأيضاً الرأي السلبي للشيعة العراقيين تجاه النفوذ الإيراني في العراق، وعدم تبني الحوزات الدينية في النجف لمبدأ ولاية الفقيه.
الفصائل الشيعية
في داخل الفصائل الشيعية لا يوجد موقف موحد تجاه بعض القضايا، مثل نظام الحكم في العراق والعلاقات الخارجية العراقية والتعامل مع إيران، وهو ما أضعف الوحدة بين الفصائل الشيعية، وفي ذات الوقت لم تتمكن إيران من السيطرة الكاملة على بعض الفصائل الشيعية، لكن لم يحل هذا دون حاجة كل تلك التيارات إلى الدعم الإيراني، فجميعهم دعموا دور إيران وإن بدرجات متفاوتة، وإن كنا نعزو ذلك إلى قلة الحضور العربي في إيران، كما اجتاحت هذه الجماعات لتحقيق التوازن بين السياسة الداخلية والعلاقات الإقليمية، فضلاَ عن أن أي حكومة شيعية كانت ستكون في حاجة إلى الدعم السياسي من إيران.
اقرأ المزيد
دلالات رفع إيران سعر البنزين والتظاهرات الناشئة
استمرار المعضلة الإيرانية بين الرغبة في الحوار والتمدد
ومما يوضح أن السياسة الإيرانية في العراق جاءت نتائجها خلافاً لما توقعته إيران، ما يتعلق بسلبية الدور الإيراني من منظور العراقيين، حيث نجد أن انتقاد العراقيين لـ”المجلس الأعلى للثورة الإسلامية بالعراق” لمساندته إيران خلال الحرب العراقية الإيرانية، دفعه لأن يحذف الإشارة إلى الثورة الإسلامية وتحوَّل إلى “المجلس الأعلى الإسلامي بالعراق”، كما أعلن ولاءه لآية الله السيستاني لنيل شرعية في الداخل العراقي.
السياسات المذهبية لإيران عمقت الطائفية
ولا يمكن القول إن إيران وفرت الأمن والاستقرار لصالح العراق، فقد أثرت سياساتها المذهبية في العراق على تعميق الطائفية وزيادة الصراع بين الفصائل وتذمر الجماعات السنية، فكثيرا ما انتقدت الجماعات السُنية سياسات رئيس الوزراء نوري المالكي، باعتبارها همشت السُنة من السلطة السياسية، وغذت الميليشيات الشيعية العراقية ذات العنف الطائفي، مما يجلي حقيقة أن الدور الإيراني في العراق في مراحله المختلفة لم يكن بأية حال داعماً لاستقرار وأمن العراق، بل جرى زرع بذور التفكك والاقتتال الطائفي، فقد تم الانتقام من السُنة وجرى إحراق المنازل والتهديد بوقف عودة السُنة إلى مدنهم، فتضخم دور الميليشيات الشيعية واعتماد الحكومة العراقية عليها في الحرب ضد “داعش”، ونتيجة إلى ذلك قامت تلك الجماعات بأفعال انتقامية من السكان السنة، فتمت عمليات قتل وتعذيب للسكان السنة من العراقيين، وفُرغت ودُمرت المدن والقرى العربية السنية في عام 2014.
وتثير تلك السلوكيات التخوف من تحول الميليشيات إلى كيانات تقوض العراق فيما بعد، لكن إيران لا ترى ذلك، فنجاح نموذج “حزب الله” في لبنان قد يشجعها على استمرار دعم الميليشيات الشيعية، حيث إن قوات “الحرس الثوري” الإيراني وقوات “الباسيج” سبق وتشكلت على هذا النحو أثناء الثورة الإيرانية.
كما باتت الميليشيات الشيعية تشكل تحدياً لاستقرار وأمن العراق، ليس فقط بالنسبة إلى سياستها الطائفية والتي أصبحت تثير قلقاً كثيراً من مكونات المجتمع العراقي كالأكراد وحتى الشيعة ذاتهم، فلا أحد يريد أن تهمين على العراق جماعات مسلحة غير خاضعة للمساءلة، كما أن نزع سلاح المليشيات الشيعية وتسريحها أمر صعب ومعقد، ليس فقط بسبب أعدادها واستقلاليتها عن الحكومة المركزية والموارد المالية والأسلحة المتاحة لها، بل بسبب تداخلها وتفاعلاتها مع الدولة والمجتمع العراقي.
وقد اعتبر تقرير وزارة الخارجية الأميركية عن الإرهاب أن عمل الجماعات المدعومة إيرانياً، بما في ذلك كتائب حزب الله، في العراق خلال عام 2015، فاقم التوترات الطائفية في بلاد الرافدين وأسهم في انتهاكات حقوق الإنسان ضد المدنيين السنة في المقام الأول.
وما يزيد من التحدي هو أن الميليشيات الشيعية الموالية لإيران رسخت نفسها بالفعل كتجارب شبيهة لتجربة حزب الله اللبناني، بعد أن استغلت ضعف وهشاشة الدولة والمجتمع العراقي عقب الاحتلال الأميركي، وعززت نفوذها باعتبارها حركات اجتماعية وثقافية لها أجنحة عسكرية واجتماعية، وتعمل بشكل مستقل عن الدولة، كما أن إضفاء الطابع المؤسسي على قوات الحشد الشعبي بتبعيتها إلى الحكومة المركزية وعملها إلى جانب الجيش العراقي الأضعف مقارنة به، يجعل البعض يتحسس من تكرار تجربة الحرس الثوري الإيراني.
أهم مؤشرات رفض النفوذ الإيراني
وتعد الاحتجاجات الجارية حالياً في العراق أهم مؤشرات رفض النفوذ الإيراني، والذي تجلى في الوعي الشعبي العراقي، فقد عبَّر الشباب المتظاهر عن غضبه من الفساد والأداء الحكومي الذي تم ربطه بالتغلغل الإيراني في العراق، وتم حرق صور الخميني، وهوجمت مقرات الأحزاب والميليشيات الموالية لها، مع انتشار شعار “إيران برة برة.. بغداد تبقى حرة”.
ما سبق من عوامل، فضلاً عن كون العراق دولة عريقة النشأة ولديها موارد ضخمة تُدار بشكل سيئ، ونفوذ ودور إقليمي مارسته طويلاً، فالعلاقات العراقية الإيرانية مازالت تتسم بعدم الثقة الكاملة بين البلدين، ولا يمكن القول إن العراق يخضع بالكامل للهيمنة الإيرانية، فما زالت هناك قيود على ممارسة النفوذ الإيراني في العراق، ومن ثم عدم دقة وصحة الادعاء الإيراني بشأن ذلك في العواصم العربية، حيث إن القبول الإقليمي والتوافق سواء من دول أخرى أو من داخل المجتمع ذاته، أهم شروط وجود التأثير والهيمنة في العلاقة بين الأطراف.
اندبندت العربي