تحول قانون الانتخابات إلى نموذج آخر لأزمة الدولة في العراق، فبعد محاولة السلطة تقزيم حركة الاحتجاج التي قتل فيها 500 محتج و أصيب ما يقرب من 20 ألف آخرين، لتنتهي عن استقالة الوزارة دون تغيير الطبقة السياسية التي أنتجتها بالأساس! وعند تقديم قانون للمفوضية العليا المستقلة للانتخابات يعمد إلى مجرد تغيير مجلس أمناء المفوضية بقضاة منتدبين، بما يعني عمليا خضوع هؤلاء القضاة إلى إرادة رئيس مجلس القضاء الأعلى شخصيا (عبر الاختيار وعبر الهيمنة الإدارية على القضاة المنتدبين) من جهة، وبالتالي إلى إرادة الأطراف السياسية المتحالفة معه (رئيس مجلس النواب الحالي نموذجا)، وبما لا يضمن عدم تحويلها مرة أخرة إلى ممثلية للفاعلين السياسيين/ للأحزاب! وأخيرا يراد غلق الدائرة/ الفخ بتشريع قانون انتخابات مجلس النواب، بطريقة السلق نفسها التي مر بها قانون المفوضية.
على مدى أربعة انتخابات برلمانية بعد 2003، كان كل قانون انتخابات يختلف عن سابقه، وتديره مفوضية انتخابات مختلفة، وفي كل مرة كان التزوير، والتلاعب بالأصوات، حاضرا بقوة. وقد تكرس مع ذلك ان فكرة القانون بالنسبة لكارتل الدولة/ السلطة في العراق لا تمثل قاعدة عامة مجردة، كما هو تعريف القانون، بل هو لديهم اتفاق سياسي يعكس علاقات القوة في مجلس النواب لحظة إقراره، ويعكس طبيعة التفاهمات الضمنية بين الفاعلين السياسيين، والأهم من ذلك كله أن غايته الأساسية ليس ضمان العدالة او النزاهة أو الشفافية، بل ضمان مصالح هؤلاء الفاعلين في المقام الأول.
وإذا كان البعض ما زال يجادل بأن عدم النضج السياسي والقانوني الذي حكم لحظة كتابة الدستور عام 2005 قد تم تجاوزها اليوم، فان الطريقة التي تصاغ بها القوانين، والصفقات التي تعقد لتمريرها، تؤكد دائما أننا ما زلنا نراوح في لحظة عدم النضج نفسها!
إن اختيار النظام الانتخابي، لا يمكن أن يكون مجرد «خيارات»، أو «رغبات»، إنما هو الترجمة الحقيقية للنظام السياسي نفسه، ولطبيعة الفلسفة التي تحكم ذلك النظام. تماما كما أن مسألة توزيع المقاعد ليست مجرد عملية رياضية، بل هلي انعكاس فعلي لخيارات جمهور الناخبين من جهة، ولضمان تمثيل أكثر عدالة من جهة أخرى. ولكن «التجريب» الذي حكم الانتخابات الأربعة الماضية، والتجريب الذي يراد أن نشهده في قانون الانتخابات القادم، يفضي إلى خلاصة جوهرية؛ وهي أن كل ما تقدم غير مفكر فيه أصلا!
عندما يترك للتصويت وحده، حسم المسألة، مع معرفة الجميع بطبيعة المشكلة الحقيقية التي ينطوي عليها أعضاء مجلس النواب على مستوى الوعي والمعرفة، لمجرد الإيهام بأن ثمة «إصلاحات»، وبأن ثمة «استجابة» للمحتجين، عبر هذا السلق للقوانين الذي سنصطدم جميعًا بتبعاته الكارثية عاجلا وليس آجلا!
إن قراءة مشروع القانون الذي يناقش حاليا في مجلس النواب، يكشف وجود خمسة «خيارات»،. لطبيعة النظام الانتخابي ويفترض واضعوه أن يتم الاختيار واحدا من بينها؛ وقد جاء أحدها في مشروع القانون المقدم من مجلس الوزراء، و قدمت القوى السياسية النماذج الأربعة الاخرى. تتدرج بين عد العراق بأكمله دائرة انتخابية واحدة، أو الإبقاء على المحافظة كدائرة انتخابية، وبين اعتماد القضاء كدائرة انتخابية. كما تتراوح بين الإبقاء على نظام التمثيل النسبي، أو اعتماد النظام المختلط (كما في اقتراح مجلس الوزراء)، أو اللجوء إلى نظام الفائز الأول (الفردي). وهو ما يعكس عدم الوعي الذي أشرنا إليه في الفقرة السابقة.
ففي حالة اعتماد نظام الفائز الأول، على مستوى الأقضية مثلا، كيف يمكن ضمان ان لا يتم توزيع الدوائر الانتخابية بطريقة تضمن مصالح الفاعلين السياسيين القومية، والمذهبية، والجهوية، والحزبية؟ خاصة وأن الانتخابات الماضية أثبتت أن الصراع الهوياتي كان عاملا جوهريا في صياغة قوانين الانتخابات المختلفة، ففي قانون الانتخابات الذي سبق انتخابات عام 2010، كان ثمة اعتراض سني على عدد المقاعد التعويضية التي تم رصدها لتصويت الخارج، التي عدوها أقل من المطلوب، لأنهم كانوا يعتقدون أن العدد الأكبر من اللاجئين/ المهاجرين بعد أحداث سامراء كانوا من السنة، وبالفعل قام نائب رئيس الجمهورية (السني) حينها بنقض القانون، مما أدى إلى تغيير القانون، عبر إلغاء المقاعد التعويضية، وأن يكون تصويت ناخبي الخارج وفقا لمحافظاتهم! كما أن الخلاف على كركوك مع إقامة أي انتخابات محلية على مدى السنوات الماضية!
وبالتالي لو تم اللجوء إلى هذا النظام، فهذا سيعني صراعا على رسم الدوائر الانتخابية بطريقة «متعمدة» تضمن النتائج مقدما، وهو ما جعل أحد الباحثين يصف هذا النظام بانه يتيح للسياسيين اختيار ناخبيهم بدلا من اختيار الناخبين للسياسيين! خاصة وأن هذا الصراع لن يقتصر على المناطق «المختلطة» قوميا ومذهبيا فقط، بل يتجاوز ذلك لأن يكون صراعا يشمل الجميع، بما فيها المناطق الصافية هوياتيا، لأنه سيتحول إلى صراع جهوي، حزبي، عشائري على تقسيم هذه الدوائر أيضا!
وهذا النوع من التقسيم السياسي للدوائر الانتخابية والذي يعرف بمصطلح Greeymanderin نسبة إلى واضعه، البرج غيري، الذي كان حاكما لولاية ماساتشوستس الأمريكية بداية القرن التاسع عشر، والذي قام بتقسيم الدوائر الانتخابية في منطقة بوسطن بطريقة تمنع الأقلية السوداء من الفوز بأي مقعد أولا، كما تضمن فوز الحزب الذي ينتمي اليه بغالبية المقاعد!
عندما يتم وضع «خيارات» بين نظم انتخابية مختلفة، بناء على «رغبات»، و«ارتجالات»، و«افتراضات»، و«أوهام»، و «مصالح»، وليس بناء على دراسات جدية، ونقاشات مستفيضة، وتحليل دقيق لطبيعة هذه الأنظمة، ومدى ملاءمتها للحالة العراقية. وعندما يترك للتصويت وحده، حسم المسألة، مع معرفة الجميع بطبيعة المشكلة الحقيقية التي ينطوي عليها أعضاء مجلس النواب على مستوى الوعي والمعرفة، لمجرد الإيهام بأن ثمة «إصلاحات»، وبأن ثمة «استجابة» للمحتجين، عبر هذا السلق للقوانين الذي سنصطدم جميعًا بتبعاته الكارثية عاجلا وليس آجلا!
معهد واشنطن