لا انتصارات كبرى بالقرن 21.. كذبة النصر الحاسم في الحروب المعاصرة

لا انتصارات كبرى بالقرن 21.. كذبة النصر الحاسم في الحروب المعاصرة

منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، اعتبر المحللون والمؤرخون العسكريون أن الجيش الأميركي هو القوة المسلحة الأكثر فتكا في التاريخ، وخلال الحرب الباردة حاول الاتحاد السوفياتي منافسة القوة الأميركية، لكن بعد زواله أصبح التشكيك في التفوق العسكري الأميركي جزءًا من الماضي.

ومع ذلك في اجتماع للرئيس الأميركي مع وزرائه بداية العام الحالي، طرح دونالد ترامب سؤالا محرجا حينما قال “لماذا لم تعد أميركا تنتصر في حروبها؟”.

ويبدو سجل خيبات الأمل الأميركية مثيرا للتعجب حقا فيما يتعلق بنتائج الحروب، فبالنظر إلى حروب الولايات المتحدة الحديثة -بما فيها فيتنام وأفغانستان والحرب الكورية وغيرها- لم تتحقق الأهداف العسكرية للجيش الأقوى عالميًّا. وبخلاف التحليل العسكري، هناك دروس التاريخ وتحولات القوة في الزمن الحديث التي تلقي بآثارها على مفهوم النصر وإمكانية تحققه بالأساس.

الحروب المعاصرة
يقول أستاذ العلوم السياسية بجامعة غلاسكو في أسكتلندا سيان أودريسكول إن “شبح الحروب المعاصرة التي لا تنتهي، يجعلنا نعيد التفكير في فكرة النصر، وهل تكتسب دلالة خاصة ومختلفة في الحالة المعاصرة”.

ويضيف “أصبحت أؤمن بأن فكرة النصر في الحرب الحديثة ليست أكثر من أسطورة”، متابعا في مقال بموقع “كونفرزيشن” أنه “حان الوقت للتفكير مرة أخرى وبشكل أعمق مما فعلنا من قبل، حول معنى النصر في حروب اليوم”.

ويقارن أودريسكول الذي صدر له حديثا كتاب “الانتصار ومأساة الحرب العادلة”، بين مفهوم النصر في خطابات آخر ثلاثة رؤساء للولايات المتحدة، ملاحظا أن ترامب يكثر في خطاباته وتجمعاته الحاشدة من استخدام المصطلح حتى في وصف الإنجازات الاقتصادية، وأيضا كان الرئيس الأميركي السابق جورج بوش يستخدم مصطلح النصر بكثافة، وعرض ذات مرة وثيقة بعنوان “إستراتيجيتنا الوطنية للنصر في العراق”.
اعلان

في المقابل، كان لأوباما وجهة نظر مختلفة للغاية، إذ رأى أن النصر مصطلح رجعي وغير مفيد لتناول طريقة انتهاء الحروب الحديثة، وسعى إلى تجنبه في خطاب الولايات المتحدة الإستراتيجي، بحسب تتبع الكاتب وتحليله.

ويرى أودريسكول أن الخلاف بين ترامب وبوش وبين أوباما، أعمق من مجرد اختلاف في الأسلوب البلاغي، فهو يعكس الشكوك العميقة حول مدى ملاءمة مفهوم النصر لوصف الحرب الحديثة.

ومنذ أوائل القرن العشرين، برزت وجهة نظر مفادها أنه في الحرب الحديثة المعتمدة على آلات القتل الجماعية، لا يفوز أحد بنصر حاسم. وكما قال أريستيد برياند -رئيس وزراء فرنسا ست مرات تخللتها الحرب العالمية الأولى- “في الحرب الحديثة ليس هناك منتصر.. الهزيمة تمد يدها الثقيلة إلى أقصى زوايا الأرض، وتضع أعباءها على المنتصر والمهزوم على حد سواء”.

وقدم الكاتب باو نينه -وهو من قدامى المحاربين في الجيش الفيتنامي الشمالي، ومؤلف إحدى أكثر روايات الحرب إثارة في القرن العشرين “حزن الحرب”- نفس الحجة، لكن بعبارات أبسط، وقال “في الحرب لا يفوز أحد أو يخسر.. لا يوجد سوى الدمار”.

موت النصر
يقول الكاتب إن الحروب الحديثة مروعة ومدمرة للغاية لدرجة أنها لا يمكن أن تؤدي أبدًا إلى أي شيء يمكن أن يُطلق عليه النصر، فكل نجاح يتحقق في ميدان المعركة يكون بتكلفة دموية هائلة بحيث يصبح تسميتها نصرا فكرة مثيرة للسخرية.

ومع ذلك فهناك جانب آخر من القصة، إذ تسببت الحرب العالمية الثانية بخسائر فادحة لكنها أوقفت النازية وأنهتها، وهو ما قد يعني أن هذه الفكرة قد تكون غير دقيقة.

وللتوفيق بين الرأيين، رأى الكاتب أنه رغم تكلفة النصر العالية فإنه كذلك يحقق أقل بكثير من النتائج المأمولة، مؤكدا أنه لا نصر حاسم في المعارك الحديثة.

ويرى أودريسكول أن النزاعات المسلحة الحديثة تميل إلى النهايات الطويلة والممتدة، ويقارن بينها وبين الحروب القديمة قائلا “إذا كانت الحروب القديمة تنتهي بمعركة ضارية، فقد أصبح ذلك من الماضي، ولا تصلح هذه الفكرة لحروب القرن الحالي”.

ويرى الأكاديمي الذي يدرس أخلاقيات الحرب أن مفهوم النصر القديم يدور حول الصورة الشعبية في الأدب والإعلام والفن والسينما عن الحرب كسلسلة من الحروب تتوج بمعركة حاسمة، لكن الواقع التاريخي ليس كذلك، فقد كانت هناك قلة قليلة فقط من الحروب على مر القرون التي انتهت بهذه الطريقة الحاسمة غير الواقعية.

ومع ذلك لعبت فكرة النصر الحاسم دورًا كبيرًا في المخيلة الشعبية، واستخدمت كفكرة مثالية للتحفيز وكهدف كبير يجري الحشد والتعبئة للجيوش من أجله، بحسب المؤرخ العسكري الأميركي فيكتور ديفيس هانسون، وذلك ما جعلها تنتمي إلى عالم السياسة أكثر من انتمائها إلى السياق العسكري الحديث.

ساحة المعركة
ويرى المؤرخ المثير للجدل هانسون الذي تتبع النصر في معارك اليونان القديمة، أن فكرة إرسال جيوش المواطنين لمواجهة بعضهم البعض عبر ساحة قتال مفتوحة كانت فكرة سائدة في الأزمنة القديمة، إذ تختبر شجاعة المقاتلين وبراعتهم العسكرية والقيم التي يؤمنون بها في الساحة، بحسب ما سجله في كتابه “الحرب والزراعة في اليونان الكلاسيكية” الصادر عن مطبعة جامعة كاليفورنيا.

في المقابل، كانت الحيل العسكرية واستخدام التكتيكات والخداع مثار سخرية واستهزاء من القادة العسكريين. وفي القرن الرابع قبل الميلاد، حقق الإسكندر الأكبر انتصاراته عبر المواجهة المباشرة في معارك ضارية، وعلّق بازدراء على اقتراح مستشاره وقائده بارمينيو نصبَ كمين ليلي للخصوم، قائلا “إن السياسة التي تقترحونها هي سياسة اللصوص.. أنا مصرّ على الهجوم علانية وفي وضح النهار، وأختار أن أشعر بالأسف على حظي بدلا من أن أخجل من انتصاري”.
اعلان

لكن الحروب الحديثة تستحسن التكتيك والمناورة، وتسود فيها مفاهيم مثل حروب العصابات والطائرات المسيّرة وغيرها. وفي الوقت الراهن، لم تعد الحروب في الأغلب بين دول. وهذه المفاهيم الحديثة -بخلاف القتال العادل في ساحة مفتوحة على الطريقة القديمة- تحول دون تحقيق النصر الحاسم في الميدان.

ويختم الكاتب فكرته معتبرا أنه لا يمكن العيش دون حلم النصر النهائي رغم أنه غير واقعي، ومع ذلك ينبغي إعادة التفكير في ما نعنيه بالنصر في الزمن المعاصر. وكما كتب المؤرخ البريطاني الشهير كريستوفر هيل ذات مرة، يجب على كل جيل إعادة كتابة تاريخه مجددا، فإن الطبيعة المتغيرة باستمرار للحرب تتطلب من كل جيل أن يعيد التفكير في فهمه للنصر العسكري.

الجزيرة