هذا هو مقالي الثالث والأخير في موضوع «ترتيب البيت الفلسطيني»، حيث أحاول أن أحلل الأزمة الوجودية التي تمر بها القضية الفلسطينية، وأقدم قدر ما أستطيع، بعض الحلول والاقتراحات والرؤى، مساهمة في النقاش الدائر بين العديد من المبادرات الإنقاذية في الوطن والشتات.
تطرقت في المقالين السابقين لضرورة إعادة الاعتبار والتعامل مع الشعب الفلسطيني كوحدة واحدة لا تنقسم إلا على واحد، سواء في فلسطين التاريخية بكاملها أو دول الطوق والشتات. إن التعامل مع الشعب الفلسطيني على هذا الأساس يسهل الانتقال إلى الخطوة الثانية، التي تحدثنا عنها، وهي إعادة بناء منظمة التحرير على أسس سليمة، بحيث تصبح خيمة ينضوي تحتها الشعب الفلسطيني بكل أطيافه، ليس كفصائل وأحزاب، بل كشعب واحد يمثله الأصلب والأوعى، ومحاربة الفساد والانحراف، وتقديم التنازلات المجانية، أي نقل المنظمة من هيكلية متآكلة، تعتمد نظام المحاصصة، إلى أداة نضالية تجمع كل الشعب الفلسطيني لقيادته على طريق التحرر والانعتاق، كما جاء في ميثاقها الأصلي.
لكن الهدف الأول والثاني لا معنى لهما بدون تحديد الهدف الذي يسعى إليه الشعب الفلسطيني بشكل جماعي، وكيف يمكن الاتفاق على وسائل تحقيقه، وما هي الأدوار التي يجب على كل فلسطيني أن يلعبه لتحقيق هذا الهدف.
ومن خلال المتابعة اليومية والتعايش مع قطاعات واسعة من الشعب الفلسطيني، وطلائعه الفكرية، أستطيع أن أقول إن الفلسطينيين الآن لا يلتفون حول هدف واحد يجمع عليه غالبية الشعب الفلسطيني، كما فعل الجزائريون مثلا حول هدف تحرير الجزائر من الاستعمار الفرنسي عن طريق حرب الشعب. والفيتناميون عندما التفوا حول هدف هزيمة الاحتلال الأمريكي، وتوحيد شطري فيتنام، وكما التف شعب جنوب افريقيا حول إنهاء نظام الأبرتهايد بكافة الوسائل، أو كما توحد الإيرانيون حول هدف إسقاط الشاه. الفلسطينيون الآن منقسمون حول ثلاثة أهداف:
أولا: هناك من يرى أن الهدف الآن هو إقامة دولة فلسطينية فقط في الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية، عن طريق المفاوضات والعمل السياسي والدبلوماسي، والعمل من خلال المنظمات الدولية والمجتمع الدولي، للضغط على إسرائيل، الدولة القائمة على الاحتلال، للتراجع عن سياساتها المخالفة للقانون الدولي.
ثانيا: هناك من يرى أن حل الدولتين قد ولى وإلى الأبد، ولا بد من تغيير الهدف إلى حل الدولة الواحدة، سمها ما شئت إسرائيل أو فلسطين أو إسراطين، على رأي القذافي، التي تقوم على المساواة التامة بين المواطنين، بدون تمييز، بناء على العرق أو الدين أو اللون أو اللغة. وهذا الحل أصبح له مريدوه وأتباعه والداعون له بجدية، خاصة في فلسطين التاريخية، بعد قانون «المواطنة الإسرائيلية» القائم على التمييز على أساس ديني.
المقاومة حالة ذهنية واستعداد نفسي ووعي عام قبل أي شيء، وتصرف خلقي وإنساني بعيد عن استهداف أي بريء
ثالثا: هناك فئة تعترف الآن بأن حل الدولتين أصبح مستحيلا، وحل الدولة الواحد أكثر استحالة، لأنه يعني ببساطة نهاية إسرائيل كدولة ذات أغلبية يهودية، ولا مجال إلا للعودة إلى برنامج التحرير الشامل، الذي يهدف إلى إقامة دولة ديمقراطية على كل أرض فلسطين خالية من الصهيونية، يتساوى فيها كل المواطنين بدون تمييز من أي نوع. وهذه الدولة لن تقوم إلا بتغيير موازين القوى، نتيجة الكفاح والمقاومة لرفع تكاليف الاحتلال، وخلخلة البنية الأمنية والاقتصادية لإسرائيل، ما يؤدي إلى هجرة معاكسة، بحيث تتعزز الفئات الإسرائيلية المحبة للسلام، والمتخلية عن صهيونيتها وتقبل العيش والتعايش كمواطنين في دولة فلسطين الديمقراطية.
هذا الانقسام الحاد كان نتيجة وليس سببا لمسيرة الثورة الفلسطينية المعاصرة. فقد غيرت قيادة الثورة المعاصرة هدفها الأصلي في تحرير الأرض والإنسان، وبناء الدولة الديمقراطية، مرارا وتكرارا، ثم غيرت وسائل تحقيق تلك الأهداف بشكل متتابع. فقد كانت الأهداف المثبتة في ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية وكافة فصائل العمل الفدائي، تنص على تحرير الوطن المغتصب بالكفاح المسلح. ودخلت لفظة التحرير في معظم، إن لم يكن كل فصائل العمل الفدائي، لكن الأمور عادت وتراجعت إلى الوراء، ولم يبق من التحرير إلا اللفظ الخالي من أي معنى. فقد بدأ تمرير مشاريع التسوية «خطوة خطوة» عبر المجلس الوطني الفلسطيني المركب بطريقة فضفاضة، تسمح بتمرير مثل هذه التنازلات الخطيرة. ففي عام 1974 أقر المجلس الوطني في دورته الثانية عشرة في القاهرة، مشروع النقاط العشر، الذي تضمن فكرة قيام «سلطة وطنية» على أي أرض يتم تحريرها. وفي دورته الثالثة عشرة عام 1977 في القاهرة، أقر المجلس نفسه، فكرة تحقيق الحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني، «وفي مقدمتها حقه في العودة وتقرير المصير، وإقامة دولته الوطنية المستقلة فوق ترابه الوطني». ووصل الأمر في دورة المجلس الوطني الفلسطيني السابعة عشرة التي عقدت في عمان عام 1984، وبالكاد حصلت على النصاب القانوني، بالترحيب بفكرة المملكة المتحدة، التي كان قد طرحها الملك حسين في خطابه أمام المجلس. وبعد الانتفاضة الأولى عام 1987 عثرت القيادة على ضالتها في دورة المجلس التاسعة عشرة في الجزائر عام 1988، حيث تم إعلان قيام دولة فلسطين. وفي صخب البهرجة الإعلامية تم الاعتراف بقرار 242 أساسا لحل الصراع، والاعتراف بحق جميع الدول في العيش ضمن حدود آمنة معترف بها، ونبذ الإرهاب والعنف.
لقد عبدت تلك الدورة الطريق لمجموع التنازلات اللاحقة، التي تجسدت في اتفاقية أوسلو 1993 التي أغفلت كافة حقوق الشعب الفلسطيني، وحولت السلطة إلى جهاز بصلاحيات محدودة، تقوم أساسا على خدمة أمن إسرائيل لإنهاء الانتفاضة، وأي شكل من أشكال المقاومة. ونتيجة للخيبة الكبرى التي أصابت الشعب الفلسطيني بعد انكشاف حقيقة أوسلو، وما آلت إليه الأمور، قامت الجماهير وقواها الحية بإطلاق انتفاضة ثانية عام 2000 لإعادة الاعتبار للمقاومة، بما فيها الكفاح المسلح وتحويل الاحتلال إلى مشروع خاسر جدا، ثم عاقبت الجماهير حركة فتح وانتخبت عام 2006 حركة حماس، نكاية وليس بالضرورة قناعة. وما لبثت أن تحولت حركة حماس بعد 2007 إلى سلطة أمر واقع في قطاع غزة، تسير على الطريق نفسه الذي سارت عليه فتح من قبل. وبالتالي تعاني الحركة من أزمة شرعية وتحاول أن تنافس فتح على الشارع الفلسطيني، الذي أصبح غير مقتنع بأن أيا من الحركتين سيحقق قيام الدولة، أو إنهاء الاحتلال، أو وقف عجلة الاستيطان والتهويد والأسرلة والضم النهائي لكل الأرض الفلسطينية. إن أي برنامج لتحديد الهدف الاستراتيجي للشعب الفلسطيني، والعمل على حشد كل الطاقات لتحقيقه يجب أن ينطلق من القناعات التالية:
أولا ـ إن السلام العادل والدائم لا يمكن، ومن المستحيل أن يتحقق مع الكيان الصهيوني بطبيعته الحالية. فالصهيونية حركة قائمة على عملية مزدوجة: ضخ مزيد من المهاجرين اليهود، والاستيلاء على أرض الفلسطينيين، وطردهم تدريجيا منها. إنها النقيض للوجود الفلسطيني وقائمة على تدميره نهائيا، واعتبار من تبقى منهم أفرادا لا غير.
ثانيا- إن المشروع الصهيوني الاستيطاني التفريغي الإحلالي نفذ وينفذ بالقوة المسلحة، ولا يمكن لوقف هذا المشروع الخطير بالمفاوضات والإجماع الدولي وكتابة المقالات والأناشيد والمهرجانات الشعبية، وإنشاء مزيد من منظمات المجتمع المدني وتعميم ثقافة السلام بالمفهوم الغربي الليبرالي.
ثالثا- لا يوجد احتلال في التاريخ بدون مقاومة. إن أعلى أنواع الإرهاب هو الاحتلال وطرد الشعوب من أراضيها وممتلكاتها، لذا تصبح مقاومة الاحتلال واجبا وطنيا ودينيا وقوميا وإنسانيا وقانونيا وعرفيا. أما وسائل المقاومة فيحددها أصحاب الشأن. المقاومة مفهوم شامل بحيث يقاوم كل شخص أينما كان بالطريقة التي يراها مناسبة. والمقاومة أولا حالة ذهنية واستعداد نفسي ووعي عام قبل أي شيء، وتصرف خلقي وإنساني بعيد عن استهداف أي بريء.
رابعا- الشعب الفلسطيني لوحده لن يستطيع أن يهزم المشروع الصهيوني، لكن قدره ودوره أن يكون طليعيا وقائدا. فمن أجل هزيمة المشروع الصهيوني لا بد أن تلتف حوله الجماهير العربية، وكل قوى الخير والسلام والعدل والحق في العالم. وعندما تحتدم المواجهة الشاملة بمفهومها الإيجابي بقيادة الشعب الفلسطيني، بصفته الأكثر معاناة، سيجد الشعب العربي وقوى الحق والعدل في العالم تلتف حوله وتساهم في إنجاز هدفه النهائي، وهو هزيمة المشروع الصهيوني، وإقامة الدولة الديمقراطية للعرب واليهود، من غير الصهاينة، المتساوين في الحقوق والواجبات والمواطنة. وهذا الهدف سيكون انتصارا لكل قوى الحق والخير والعدل في العالم وليس فقط للفلسطينيين، كما حدث في هزيمة الأبرتهايد في جنوب افريقيا. لا بديل عن ذلك، طال الزمان أو قصر، فمسيرة الألف ميل دائما تبدأ بخطوة واحدة.
القدس العربي