مذكرة التفاهم الليبية – التركية.. أبعادها وتداعياتها المحلية والإقليمية

مذكرة التفاهم الليبية – التركية.. أبعادها وتداعياتها المحلية والإقليمية

وقعت الحكومة التركية وحكومة الوفاق الوطني الليبية، في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، مذكرة تفاهم بشأن السيادة على المناطق البحرية في البحر الأبيض المتوسط، خلال زيارة رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني، فايز السراج، اسطنبول، ولقائه الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان. وحال خروج بنود المذكرة إلى العلن، توالت التصريحات الرافضة لها من معسكر اللواء المتقاعد خليفة حفتر، ومن عدة دول مطلة على المتوسط، في مقدمتها مصر وقبرص واليونان وإسرائيل. وعلى الرغم من تأكيدات الطرفين، التركي والليبي، أن توقيع المذكرة من صلاحيات المجلس الرئاسي الليبي، وأنها لا تلحق أي ضرر بالمصالح الاقتصادية والأمنية لدول الجوار الإقليمي، فإن ارتداداتها ما تزال مستمرة.
وتنص المذكرة في ديباجتها على أن الطرفين “قرّرا العمل على تحديد المجالات البحرية في البحر المتوسط بشكل منصف وعادل [وفق] الصلاحيات المنبثقة من القوانين الدولية”. أما بقية فصول المذكرة فتتعلق بضبط حدود “الجرف القاري والمنطقة الاقتصادية الخالصة” وفق إحداثيات جغرافية مضبوطة، وإجراءات تسجيلها لدى الأمم المتحدة من الطرفين، وسبل حل النزاعات حولها، وآليات مراجعتها وتعديلها. وتظهر الخريطة الملحقة بالمذكرة حدود مناطق السيادة البحرية بين البلدين.
لا تمثل المذكرة التي وقعها الطرفان سابقةً بشأن ترسيم الحدود البحرية بين دول شرق المتوسط، إذ سبق أن وقّعت مصر وقبرص اتفاقًا لترسيم الحدود البحرية بينهما في عام 2013، وهو الاتفاق الذي بادرت في إثره الدولتان، إضافة إلى إسرائيل واليونان، بعمليات التنقيب عن الغاز والنفط على مساحاتٍ واسعة شرق المتوسط. كما شهدت السنوات الأخيرة توقيع اتفاقيات مماثلة بين بلدان أخرى من المنطقة، ويُنتظر مبادرة دول أخرى، من بينها تونس، إلى توقيع مذكرات مماثلة.
مواقف الأطراف الليبية
قوبل توقيع مذكرة التفاهم بمواقف متناقضة من المكونات والأجسام السياسية في ليبيا، وساد الانقسام بشأنها وفقًا للولاءات بين المكونات المحسوبة على اللواء المتقاعد خليفة حفتر من
“تنص المذكرة في ديباجتها على أن الطرفين “قرّرا العمل على تحديد المجالات البحرية في البحر المتوسط بشكل منصف وعادل”جهة، والمحسوبين على حكومة الوفاق من جهة ثانية؛ فقد أعلن أحمد المسماري، المتحدّث باسم قوات حفتر “رفض الاتفاق الموقع بين تركيا والسراج”، متوعدًا بـ “التصدّي بالقوة العسكرية لمنع اختراق السيادة الليبية”، مع أن الاتفاق لا يخترق السيادة الليبية، بل يثبتها في اتفاقية دولية. في حين كان موقف أعضاء مجلس النواب – جناح طبرق مشابهًا، حيث رفضوا مذكرة التفاهم رفضًا مطلقًا، ودعوا إلى “سحب الاعتراف الدولي بحكومة السراج”. وفي المعسكر المقابل، سارع المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني إلى تصديق المذكّرة، وطلَب من الجهات المختصة تنفيذها، في حين أعلن أعضاء مجلس النواب – جناح طرابلس دعمهم المذكرة، واعتبروا أنها “لا تعد مساسًا أو تفريطًا في سيادة واستقلال ليبيا، ولم تشكل أي خرق للقانون الدولي”.
مثّلت صلاحيات المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني أحد محاور الجدل في تبرير رفض المذكرة أو قبولها؛ ففي حين يرى المعارضون أن المجلس الرئاسي لا يمتلك هذه الصلاحية، يذهب الداعمون إلى أن المجلس يمثل السلطة الشرعية المعترف بها دوليًا، ما يمنحه الحق في إبرام المعاهدات والاتفاقات باسم الدولة الليبية. وفي هذا السياق، تنص الفقرة (2ح) من المادة (8) من اتفاق الصخيرات المغربية لعام 2015، على أن من مهمات المجلس الرئاسي “عقد الاتفاقيات والمعاهدات الدولية على أن تتم المصادقة عليها من مجلس النواب”، في حين تنص الفقرة 8 من المادة 9 على أن من مهمات مجلس وزراء حكومة الوفاق “التفاوض بشأن المعاهدات والاتفاقيات الدولية”. ويعدّ تشظي مجلس النواب إلى مجلسين؛ واحد في طبرق والآخر في طرابلس، إضافةً إلى انتهاء مدّته النيابية، مدخلًا آخر للخلاف بشأن تأويل المذكرة ومدى انسجامها مع مقتضيات نصوص الاتفاق السياسي الليبي. وعلى الرغم من هذا الجدل الحاصل، لا يفيد النظر إلى الأمر من هذه الزاوية كثيرًا في المشهد الليبي المحكوم باعتبارات محلية وإقليمية ودولية معقدة، إذ لا يلتفت المتقاتلون فيها كثيرًا إلى التأويلات الدستورية والقانونية.
تأجيج الصراع الإقليمي في ليبيا
جاء توقيع مذكرة التفاهم مع تركيا ليضيف موضوعًا جديدًا إلى الصراع الدائر في ليبيا؛ فبالنسبة إلى حكومة الوفاق يمثل الهجوم الذي تشنّه قوات حفتر على العاصمة طرابلس، منذ 4 نيسان/ أبريل 2019، تحدّيًا وجوديًا لها، فقد حدّد حفتر أهداف هجومه بالقضاء على القوات المحسوبة على حكومة الوفاق، وإلغاء نتائج اتفاق الصخيرات، معتبرًا المجلس الرئاسي فاقدًا
“العاصمة طرابلس ظلت بنيتها التحتية ومنشآتها الخدمية والمدنية تحت تهديد القصف المتكرّر منذ الربيع الماضي” الشرعية و”حاميًا للجماعات الإرهابية”. وعلى الرغم من أن السراج لم يُبدِ معارضة فعلية لسيطرة حفتر على المنطقة الشرقية والجفرة والهلال النفطي والجنوب وبعض مدن المنطقة الغربية، فإن هذا الأخير لا يُبدي قبولًا بأي شراكةٍ أو حلول سياسية. ومع أن القوات التابعة لحكومة الوفاق تمكّنت من استيعاب الصدمة الأولى التي أعقبت انطلاق الهجوم في الربيع الماضي، وأوقفت تقدّم القوات المهاجمة، وثبّتت محاور الاشتباك عند التخوم الجنوبية للعاصمة، واسترجعت مدينة غريان الاستراتيجية، فإن ذلك كله لم يؤمّن العاصمة التي ظلت بنيتها التحتية ومنشآتها الخدمية والمدنية تحت تهديد القصف المتكرّر، كما طاول القصف الجوي، لأول مرة منذ سقوط القذافي، مدنًا مثل مصراتة والزاوية.
ويدرك المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني أن حفتر يستمد جزءًا مهمًا من قوته من الدعم التسليحي والمالي واللوجستي والسياسي والإعلامي الذي يتلقاه من حلفائه الإقليميين والدوليين الممثلين، أساسًا، في الإمارات ومصر والسعودية والأردن والسودان وروسيا وفرنسا، كما أنه لا علاقة للتدخل الخارجي المكثف لصالحه بتوقيع المذكرة مع تركيا ولم يكن ردًا عليها. ومنذ انطلاق معركة طرابلس، بدا تأثير الدعم الإقليمي والدولي جليًا، من خلال الاستخدام المكثف للمدرعات والطيران الإماراتي المسيّر، والأسلحة والخبراء المصريين والفرنسيين، كما تواترت التقارير عن دور كبير للمرتزقة الروس ومسلحي الجنجويد في معارك الأسابيع الأخيرة في طرابلس التي اعترف المسماري ببعض تفاصيلها.
بناء عليه، ومنذ بداية الهجوم على طرابلس، تحرّك المجلس الرئاسي بحثًا عن دعم إقليمي لإيجاد توازن نسبي مع الطرف المقابل، وزار السراج تركيا في الأيام الأولى للهجوم، التقى فيها بأردوغان الذي صرّح، حينها، إن بلاده لا تعترف إلا بالمجلس الرئاسي وحكومة الوفاق سلطةً شرعيةً في ليبيا، وأبدى استعداده للمساعدة في دحر الهجوم. وعلى الرغم من أن
“قوبلت مذكرة التفاهم بمواقف متناقضة، وساد الانقسام بشأنها وفقًا للولاءات بين اللواء المتقاعد حفتر، وحكومة الوفاق”الطرفين لم يكشفا عن تفاصيل الدعم الذي تنوي تركيا تقديمه للطرف الليبي، فإن الأسابيع التالية شهدت وصول مدرّعات وآليات تركية إلى طرابلس، لم تعلن عنها حكومة الوفاق رسميًا، غير أن منابر إعلامية مقرّبة منها بثت مقاطع تظهر وصولها إلى الموانئ التي تسيطر عليها حكومة الوفاق. وهناك مؤشرات في الأسابيع الأخيرة عن وصول مزيد من الأسلحة التركية، بينها صواريخ أرض – جو متطورة مكّنت قوات حكومة الوفاق من إسقاط طائرة مقاتلة تابعة لحفتر في مدينة الزاوية، وأخرى مسيّرة في مصراتة.
على الرغم من أن التدخل الخارجي كان سمة مميزة للحالة الليبية منذ بداية الثورة في شباط/ فبراير 2011، فإن التنافس الإقليمي والدولي على ليبيا اشتد بعد الهجوم أخيرا على العاصمة، حيث وصف وزير الداخلية في حكومة الوفاق الوطني، فتحي باشاغا، تشكيلة القوات المقابلة بـ “القوات متعددة الجنسيات”. هذا الصراع مرشّح للتصاعد خلال الفترة المقبلة. وقد صرح أردوغان إن بلاده مستعدة لإرسال قوات إلى ليبيا، في حال طلبت حكومة الوفاق ذلك، بموجب مذكرة التفاهم الأمنية التي تم توقيعها، إلى جانب المذكرة المتعلقة بالحقوق البحرية. وتتزامن تصريحات أردوغان مع وصول مزيد من شحنات الأسلحة إلى أطراف الصراع، وتصريحات رئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، غسّان سلامة، عن حشد قوات حفتر وداعميها للسيطرة على طرابلس، بغرض قطع الطريق على أي مخرجاتٍ ممكنة لمؤتمر برلين، ودعوة حفتر قواته إلى التقدم إلى قلب العاصمة طرابلس.
الحسابات التركية
على مستوى التعاطي الإقليمي مع مذكرة التفاهم الليبية – التركية، وإضافةً الى التنافس المحتدم في ليبيا، يمثل المخزون الكبير المفترض من موارد الطاقة العامل الأساسي للحساسية المفرطة التي قابلت بها دول شرق المتوسط، خصوصا مصر واليونان، هذه المذكرة، بلغت حد طرد السفير الليبي لدى اليونان، فوفق تقديرات هيئة المسح الجيولوجي الأميركية المعلنة في عام 2010، يختزن باطن شرق المتوسط ما يقارب 107 مليارات برميل من النفط الخام، و122 تريليون متر مكعب من الغاز؛ وهي مخزونات ضخمة وكافية لإنعاش اقتصادات الدول المعنية وتعديل ميزانها الطاقي سنوات طويلة. ويضاف إلى هذا المخزون التقديري ما اكتُشف فعلًا خلال السنوات الأخيرة، وبوشر في استخراجه، على غرار حقل “أفروديت” القبرصي، والحقول التي تديرها مصر في دلتا النيل، والحقول التي تستغلها إسرائيل قبالة السواحل الفلسطينية.
وإضافةً إلى انعكاساته الاقتصادية، ترى تركيا، والدول الإقليمية في شرق المتوسط، أن النصيب
“تدرك حكومة الوفاق أن حفتر يستمد جزءًا مهمًا من قوته من الإمارات ومصر والسعودية والأردن والسودان وروسيا وفرنسا”الذي ستحصل عليه من هذا المخزون الهائل سيكون من بين محدّدات أدوارها الجيوستراتيجية في المنطقة. ويعد هذا المعطى أحد المداخل الضرورية لإدراك حالة التوتر التي تعاطت بها بعض دول الإقليم مع مذكرة التفاهم الليبية – التركية. وتذهب جل المؤشرات الحالية إلى أن حالة التجاذب ستتصاعد في قادم الأيام في ظل التصريحات المعلنة للمسؤولين الأتراك بتوجيه حفّارات إلى مواقع في المنطقة البحرية التي تم اقتسامها مع ليبيا، والانطلاق في عمليات الاستكشاف والتنقيب، وفرض أمر واقع، بصرف النظر عن اعتراضات مصر واليونان وقبرص وإسرائيل التي تكتلت ضد تركيا، ولم تأخذ مصالحها، ولا مصالح سورية ولبنان وفلسطين في شرق المتوسط، في الاعتبار. وتكشف تصريحات المسؤولين الأتراك، عقب توقيع المذكرة مع الجانب الليبي، أن صراع النفوذ الإقليمي كان حاضرًا بكثافة في حسابات الأتراك، وأن التوقيع، في رأيهم، قد أفشل مخططاتٍ إقليميةً ودوليةً لعزل بلادهم وتقليص تأثيرها في ملفات المنطقة، حيث أكد الرئيس أردوغان أن “مصر وقبرص اليونانية واليونان وإسرائيل، تحاول، بين حين وآخر، فرض سيادتها على المنطقة بمعزل عن تركيا”، وأن مذكرة التفاهم مع ليبيا “أحبطت بعض المؤامرات ضدها”.
خاتمة
يتزامن توقيع مذكرة التفاهم الليبية – التركية بشأن السيادة على المناطق البحرية في البحر المتوسط مع تنامي التجاذبات داخل ليبيا وخارجها، فعلى التخوم الجنوبية لطرابلس، تحتشد قوات حفتر، في محاولة جديدة للسيطرة على العاصمة والمنطقتين الغربية والوسطى، بدعم إقليمي كبير، وبمشاركة مباشرة من مجاميع مسلحة أجنبية. وعلى المستوى الإقليمي، يتصاعد صراع النفوذ بين الدول المطلة على شرق المتوسط للاستحواذ على أكبر نصيب من مخزون الغاز والنفط. وفي أثناء ذلك، يسجل نفوذ روسيا العسكري في المنطقة نقلةً جديدةً بدخولها فاعلًا مؤثرًا في المشهد الليبي. وبناء عليه، تدفع كل تلك المعطيات إلى توقّع مزيد من التصعيد داخل الجغرافيا الليبية وفي مياه المتوسط.

المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات