كيف يمكن لأي شخص كان، أو نظام كان، أو مجتمع دولي السكوت على قتل 511 متظاهرا سلميا وجرح 24311 واعتقال 2777، واعاقة حوالي 3000 شخص، فضلا عن المختطفين يوميا؟
ما الذي يشرعن القتل والقمع والإرهاب الحكومي؟ هل يرتبط العثور على الأجوبة فهم كيفية تمكن النظام العراقي، الملتحم بالاحتلال، من تمرير أجندته على مدى 16 عاما؟ ولم لم يخرج الحسين صارخا في الشوارع، احتجاجا على الظلم والذل، قبل الآن؟ هل لتعليب وتسويق «الاحتلال» تحت اسم «التغيير» دور؟
استطاعت انتفاضة تشرين بحجم تضحياتها الإجابة على بعض الأسئلة. فجداول المختطفين والجرحى والمعاقين والشهداء، تزداد طولا، وتكتظ الجدران بصورهم، مع كل يوم جديد يواصل فيه المنتفضون البقاء في ساحات وشوارع مدنهم التي استعادوا ملكيتها، حتى الآن، وسقف طموحهم يرتفع بارتفاع «جبل أُحد»، متحدين من يقايض حقهم بالحياة الكريمة ودماء الشهداء بتعويض مالي، أو وعد بعمل، أو تدوير ساسة، يجمعون في خصالهم بين الفساد والجريمة والإرهاب.
كان، آخر جدول، تم نشره منذ أيام، ملونا. كأن منح أسماء وأعداد الشهداء لونا، مهما كان، سيجعل لغيابهم حضورا لا يمكن المساومة عليه. أضاف الفنانون، على مدن التحرير، حيوية الابداع. إذا نظرنا الى الجماهير، سنجد مع الناشطين من الخريجين والمهنيين والكادحين، المتأدلجين او المنخرطين بهذا الحزب أو ذاك. فهناك من كان حاضرا منذ الأيام الأولى للانتفاضة، وهناك من التحق، بعد ان أدرك حجم وإصرار المنتفضين على البقاء، او بعد ان مس رشاش القتلة ودخانهم وآلية ترويعهم صديقا له أو فردا من افراد عائلته.
تكمن قوة المنتفضين لا في أعدادهم الكبيرة، فحسب، والتي يحاول ساسة النظام التقليل منها كجزء من حملتهم الإعلامية المضادة، بل في اصرارهم ومثابرتهم على البقاء ورفض المساومة على الحقوق، والاهم من ذلك كله الموقف الموحد ضد المحتل، الذي أدركوا انه يشمل المحتل الأمريكي بقواعده العسكرية، والإيراني بميليشياته، متجاوزين بذلك الخندق الذي طالما أريد لهم البقاء فيه، يراوحون بين «أما» و»أو».
يصفع جدول ضحايا انتفاضة «نريد وطن» وجوه الساكتين على الظلم، أو المواظبين على تبريره، بحجة «إنهم لا يستطيعون مواجهة الأطراف السياسية المتجذرة بسلاحها ومالها»، أحيانا، وبذريعة «الحرص على حياة المتظاهرين»، أحيانا أخرى، كما يردد ساسة النظام، وأبرزهم «سياسي مستقل»، متأرجح، يدعى عزت الشابندر. الذي أطلقه رئيس الوزراء «المستقيل»، في أيامه الأخيرة، بوجوه المتظاهرين متهما اياهم بمفردات سوقية، وباذلا كل جهده لتلويث الانتفاضة باعتبارها ليست صراعا بين المظلوم والظالم، بل صراعا بين الأطراف السياسية المشاركة بالنظام فقط، مما يلغي، بالضرورة، استقلالية الانتفاضة، وتمثيلها الشعب، وكونها حدثا تاريخيا، أدى الى تغييرات، لم يشهدها العراق منذ احتلاله عام 2003، باعتراف الجميع.
إزاء هذا الوضع، بكل تفاصيله، يبقى السؤال قائما: لم التأخر؟ لماذا بعد 16 عاما؟ هل هو انتظار تحقيق الوعود لفئة دون غيرها؟ هل هي الزبائنية لأحزاب تعهدت بالفردوس؟ هل هي المرجعية وفتاويها والانشغال بالطقوس الدينية؟ هل هي محاربة الإرهاب الداعشي؟ الخوف من الآخر؟ خشية عودة البعث؟ التعاون مع المحتل الأمريكي من قبل البعض، والولاء لايران من قبل آخرين؟
لم يعد بحاجة للنقاش، ان ما يهدف اليه المحتل الأمريكي والإيراني، هو استخدام الأرض العراقية ساحة لتصفية الصراع والتفاوض بينهما على حساب الشعب العراقي. وهما لا يتورعان، في سبيل ذلك، عن الخوض في دماء الشهداء وإرهاب الناس وتحويل البلد الى ارض خربة. وهذا هو بالفعل ما حققاه، بدرجة او أخرى، حتى الأول من تشرين حين خرج شباب متلفعون بالعلم العراقي، أدركوا أن مطالبهم وحقوقهم لن ترى النور، اطلاقا، ما لم يقيموا في وطن مستقل يوفر لهم، ولكل المواطنين، الكرامة. أدركوا أن العراق، مختطف ويجب تحريره.
مع كل يوم جديد يواصل فيه المنتفضون البقاء في ساحات وشوارع مدنهم التي استعادوا ملكيتها، حتى الآن، وسقف طموحهم يرتفع بارتفاع «جبل أُحد»، متحدين من يقايض حقهم بالحياة الكريمة ودماء الشهداء بتعويض مالي
ان تحرير الوطن، يتطلب النظر في الوضع العام بكامله، وماهية دور القوى السياسية المحلية وعدم الاكتفاء بإلقاء اللوم على القوى الخارجية. وإذا كان القاء اللوم بالتبعية والتعاون مع المحتل، منذ الغزو، حتى اليوم، مُنصَب على الأحزاب الإسلامية الطائفية، فماذا عن مسؤولية الأحزاب اليسارية وعلى رأسها الحزب الشيوعي؟ إن متابعة الأحداث السياسية خلال أعوام الاحتلال تبين أن مسؤولية الخراب، على كل الأصعدة، مشتركة. وهي نقطة قلما تتم الإشارة اليها، أو مراجعتها، خشية المساس بمفهوم الولاء للحزب من قبل أعضائه، أو سهولة اتهام « الإسلامويين» في بلد تربى مثقفوه، تاريخيا على الثقافة اليسارية العلمانية.
إن مسؤولية اليسار، عموما، والحزب الشيوعي، خاصة، جسيمة. ان تأرجح اليسار البندولي، متمثلا بنخبته السياسية والثقافية، هو الذي منح الأحزاب الطائفية صك احتقار الشعب من خلال مشاركته السلطة. مثال ذلك، تنازل الحزب الشيوعي عن مبادئه وقيمه السياسية المتعارف عليها تاريخيا واخلاقيا، ليمكن قبوله وتبنيه، فعلا لا قولا، في العملية السياسية التي هندسها المحتل، ولكي يُصبح مؤهلا كشريك في منظومة الاحتلال، بدءا من عضوية مجلس الحكم، بأمرة حاكم الاحتلال بول بريمر، الى التحالف لخوض الانتخابات والحصول على مقعد نيابي او منصب حكومي، مع تيار ارتكب العديد من المجازر الموثقة ويقوده شخص مختل، يتأرجح كالبندول حالما تمسه ريح، تحت اسم « سائرون». مؤكدا ببيان له، في 14 حزيران/يونيو 2018، «فان موقفنا هو موقف سائرون ذاته»، حين ربط مصيره الهامشي بالانضمام الى كتلة «الفتح»، الجناح السياسي لميليشيا «الحشد الشعبي» المدعومة إيرانياً، بعد يومين من وصول قائد فيلق القدس قاسم سليماني إلى العراق ولقائه بممثل عن الصدر ورئيس الوزراء حيدر العبادي.
ان النظر في دور الحزب الشيوعي، وتقييم افعاله، وتمحيص لغته التي قام منظريه بتحييدها خشية الاضطرار الى خسارة التحالفات التي لم تمنحهم، بعد كل التنازلات، غير مقعدين انتخابيين، أحدهما للأمين العام للحزب، ضروري، لتمييز الأدوار وتقييم كل القوى الموجودة في الساحات مطالبة بالتحرير، لئلا يعيد التاريخ نفسه، نتيجة التأرجح والمساومات، بشكل تراجيدي، أكثر مما هو عليه الآن.
القدس العربي