في 17 كانون الأول 2010، وبالقرب من سوق الخضار في مدينة سيدي بوزيد بتونس، وأمام أنظار عشرات الأشخاص، صفعت الشرطية فادية حمدي وجه بائع خضار شاب كان يمر بالسوق، صادرت بضاعته وأمرته بالانصراف. اسم الشرطية يذكر قليلاً لكن الشاب تحول إلى بطل قومي واسمه محمد بوعزيزي، وقد ردده ملايين الشباب في أرجاء الشرق الأوسط. الإهانة الشديدة التي أحس بها جعلت بوعزيزي يُحرق نفسه ويطلق عاصفة شديدة جامحة غيّرت وجه الشرق الأوسط وعُرفت بالاسم التهكمي “الربيع العربي”. ثمانية عشر يوماً مؤلمة قضاها بوعزيزي في قسم معالجة الحروق في مستشفى محلي قبل وفاته. في فترة معالجته انطلق في الشوارع في أرجاء تونس عشرات الآلاف من المتظاهرين وهم يهتفون “ارحل”، وذلك من أجل أن يقولوا للحكم الديكتاتوري للرئيس زين العابدين بن علي أن عليه أن يغادر الدولة التي قمعها ويذهب للمنفى.
الدهشة من استيقاظ المواطنين أخذت أشكالاً عديدة، لقد تملكت المحللين والخبراء الذين لم يتصوروا أن جمهوراً عربياً خانعاً ومطيعاً، جباناً ويائساً، سينجح في النجند ضد نظام قوي، وتعاظمت الصدمة عندما لم يخش الجمهور ولم يرتدع من محاولات القمع العنيفة التي مارسها النظام، وواصل التظاهر والتعرض للقتل، وتأثرت بعصيانه أكبر الدول العربية مصر، وكذلك ليبيا واليمن، وأخيراً سوريا. صف من السياسيين الذين شكلوا طوال جيل وجه الشرق الأوسط فقدوا كراسيهم ومكانتهم في 3 من بين الدول التي هزها العصيان المدني- ليبيا واليمن وسوريا- أحدثت الانتفاضات حروباً أهلية استمرت حتى اليوم. في كل باقي الدول، ساد الوعي بأن الرأي العام العربي الذي اعتُبر غير مهم لوا يستحق المتابعة والبحث، به فعلاً قوة كامنة خطيرة تغيّر تركيب المكونات من أساسها.
بالمفاهيم السياسية للربح والخسارة الفورية،فإن معظم الانتفاضات فشلت في شهودها لأن تغيّر أسس الاتفاقات غير الرسمية بين الأنظمة والجمهور. مصر حكمها رئيس ديكتاتوري يقمع كل إشارة ناقد. البراعم الديموقراطية التي أثمرت الانتخابات الديمقراطية الحرة الأولى في مصر بعد حوالي 60 عاماً سحقت بقدمٍ قاسية حقوق الإنسان، التي حظيت باعتراف فاخر في الدستور الذي كُتب في أعقاب الدولة في مصر، بوقيت حروفاً ميتة، وكذلك الوعد باقتصار أكثر مساواة ينتظر تطبيقه بنفاد صبر.
ليبيا لم تنجح في تأسيس نظام متفق عليه وناجع، وتديرها الآن حكومتان وعشرات المليشيات التي تحارب إحداهما الأخرى. أما اليمن فتحول إلى ساحة قتل، قُتل فيها أكثر من مئة ألف شخص بسبب الحروب والأمراض. وفي سوريا قُتل نحو 600 ألف شخص، وملايين اقتُلعت من بيوتها، ودول أجنبية تدير على حسابها حروب سيطرتها. أما تونس، التي بدأت بها الثورة، فنجحت بتأسيس نظام ديموقراطي نسبياً، ولكن في كل واحدة من الدول تلك، وفي دول عربية أخرى لم تتعرض للهزة الأرضية بصورة مباشرة مثل: السعودية، والأردن أو الكويت، فإن الجمهور أو الرأي العام الذي في الماضي سُمي بسخرية “الشارع”، احتلت مكانها المؤثر في ميزان القوى السياسة، وفي الأماكن التي بها أجهزة حكم مثل البرلمان أو نظام قضاء عادل وسوي، غير موجود مطلقاً أو تحولت إلى خاتم مطاطي لنزوات الأنظمة.
يكفي متابعة الأحداث الحالية في العراق ولبنان، التي خرج فيها الجمهور للشوارع، نظراً لأنه لم يعد يثق بأسلوب النظام ولا بزعمائه، لنرى بصمات الأصابع القوية للثورة التي أشعلها بوعزيزي قبل 10 سنوات. في هاتين الدولتين وأمام قوات نظام عنيفة وميلشيات أطلقت النيرات الحية وقتلت مئات الأشخاص في العراق، ومواجهات عنيفة مع حزب الله وقوات الأمن في لبنان.. نجح الجمهور في التسبب باستقالة رؤساء حكومات. العقد القادم لم يعد قادراً على تجاهل رأي الجمهور كما رسخه ملايين الشباب في شوارع الشرق الأوسط وحولوه إلى مكون هام جداً في كل عملية اتخاذ للقرارات.
هوية شرعنة لإيران
إذا كانت ثورات الربيع العربي قد نجحت في إحداث ثورة فكرية بالنسبة لقوة الجمهور العربي في الشرق الأوسط، فإن الانقلاب الاستراتيجي الأهم الذي وقع في الساحة في العقد الأخير هو في مكانة إيران. للمرة الأولى منذ الثورة الإسلامية التي وقعت في 1979- تلك التي سبقت الربيع العربي بحوالي 3 عقود واندلعت هي أيضاً على أسس اليأس، الإحباط وغضب الجمهور من النظام القمعي للشاه- فقد انضمت إيران للمجتمع الدولي عندما وافقت على التوقيع على الاتفاق النووي في 2015.
إلى جانب الأهمية الكبيرة للاتفاق كأداة دبلوماسية منعت حرباً ضد إيران وربما حرباً إقليمية وأبعد من ذلك، فإنه ألغى الرؤية الاستراتيجية الغربية التي رأت في إيران دولة مجنونة، أو على الأقل غير عقلانية؛ دولة يقودها حكماء شريعة منفلتو العقال، وكل هدفها محاربة الغرب وبالأساس إسرائيل. الاتفاق لم يلغِ الأيدولوجية المتطرفة لجزء من التيارات الراديكالية، أو الحلم بتصدير الثورة الإسلامية، ولكنه خلق الاحتمال بضبط هذه الأيدولوجية بأدوات سياسية واقعية تتمثل بالربح والخسارة، والتكلفة والمنفعة.
أصبحت إيران دولة شرعية، قامت بترجمة التهديد الاستراتيجي الكامن في برنامجها النووي إلى رافعة سياسية. وهذا منحها مكانة دولة عظمى إقليمية، والتي “من حقها” المشاركة في اللعبة الاقتصادية الدولية. الخلاف حول جودة وفرص الاتفاق النووي لم يتوقف للحظة. الشكوك والشبهات لم تختفِ مرة واحدة. كما تثبت بنود الإشراف المشددة التي وُضعت على إيران في الاتفاق. إلى جانب تمسكها بتنفيذ بنود الاتفاق في كل ما يتعلق بالبرنامج النووي، فإن إيران لم تتوقف عن العمل كمنافس سياسي واستراتيجي في الساحة الشرق أوسطية. هي تعمل للحصول على نفوذ في باكستان وأفغانستان، وتواصل تعزيز قوة حزب الله وإملاء خطوات سياسية في لبنان والعراق وحتى تدعم الحوثيين في اليمن.
وهي تواصل تطوير برنامج الصواريخ الباليستية الخاص بها، والاتفاق النووي لم يستطع منع ذلك. وكان من المفترض التوصل مع طهران إلى اتفاقات إضافية تنظم شبكة العلاقات بينها وبين الغرب وباقي دول الشرق الأوسط. هذه كانت محاولة راديكالية سواء من قبل الغرب أو من قبل إيران للتحرر من الاستراتيجية التقليدية.
رغم الانسحاب وحيد الجانب للولايات المتحدة من الاتفاق النووي في 2018 وخروقات الاتفاق التي قامت بها إيران بصورة صريحة ومخططة رداً على فرض العقوبات الإضافية من جانب دونالد ترامب، فإن الاتفاق ما زال سارياً. إيران ودول أوروبا وروسيا والصين الموقعة عليه لم ينضموا لانسحاب الولايات المتحدة، والأكثر من ذلك، يشكل الاتفاق أساساً لمواصلة المفاوضات مع إيران على طريقة تنفيذه.
ولكن حتى عندما يكون مصير الاتفاق والتداعيات السياسية الأمريكية على إيران هي موضوع التخمينات بسبب تقلبات ترامب، فإن الاتفاق النووي جدير بمكانة صانع الثورة الإقليمية والدولية في العقد الأخير. لقد نجح في تقسيم الشرق الأوسط إلى كتلتين واضحتين. إحداهما تشمل الدول التي أعلنت الحرب على تطلع إيران لهيمنة إقليمية، من بينها السعودية، والبحرين، والإمارات، ومصر، وإسرائيل، أما في الكتلة الثانية فدول رأت في إيران شريكة شرعية أو على الأقل دولة جديرة بالمشاركة. من بين هذه الدول: قطر، وتركيا، عوُمان، والعراق وسوريا.
الاتفاق أوجد تحالفات جديدة لم يسبق رؤيتها في العقود السابقة، مثل مشاركة في المصالح، وحتى تقارب سياسي بين إسرائيل والسعودية واتحاد الإمارات، إلى جانب أحلاف جديدة بين تركيا وقطر. في الوقت نفسه، فقد تسبب بشرخ في العلاقة الشجاعة بين الولايات المتحدة والسعودية التي شكت بأن الرئيس في حينه باراك أوباما ينوي استبدال التحالف معها بتحالف مع إيران. كما وضع إسرائيل في عزلة لا تحسد عليها عندما واصلت كونها الدولة الأكثر صراخاً في معارضتها للاتفاق، بعد أن حققت نصراً سياسياً ضخماً في نجاحها في تجنيد الغرب ضد إيران.
انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق أحدث الشرخ العميق في العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وواشنطن، وتدهورت لتهديدات متبادلة إلى تجند أوروبي لم ينجح في تجاوز العقوبات الأمريكية. بصورة متناقضة، فإن سعي ترامب لإجراء مفاوضات مباشرة مع إيران يواصل منحها شهادة الشرعية كدولة متعقلة يمكن الوصول معها لاتفاقات. الاتفاق النووي، سوية مع “مشكلة إيران”، سينتقل الآن بالوراثة للعقد القادم.
شظايا الخلافة
المكان الثالث في قائمة الثورات التي مر بها الشرق الأوسط في العقد الماضي يحتله تنظيم “الدولة الإسلامية-داعش”، الذي عرض وطبق للمرة الأولى استراتيجية دينية – عسكرية قائمة على سيطرة جغرافية ما فوق قومية. استند “داعش” إلى أيدولوجيا راديكالية معروفة، تسعى إلى إعادة تأسيس أمة إسلامية موحدة في فضاء إسلامي متواصل تحت حكم زعيم ديني أعلى على شاكلة الخلفاء الذين حكموا بعد موت النبي محمد.
لقد استغل التنظيم الإخفاقات السياسية والعسكرية للأنظمة في العراق وسوريا، وأسس في أجزاء من هذه الدول فضاء إسلامياً متطرفاً مع خصائص لدولة. هنا يكمن التجديد الذي يميز “داعش” عن تنظيمات راديكالية أخرى مثل القاعدة أو منظمات الإرهاب الإسلاموية في مصر- قبل انضمامها لـ “الدولة الإسلامية”. هذه التنظيمات التي عملت داخل دول تسعى لتقويض نظام الحكم المحلي لتضع مكانه سلطة دينية تدير الدولة حسب الشريعة طبقاً لتفسيرهم الراديكالي. إن حلمهم هو إقامة أمة إسلامية موحدة تلغي فكرة القوميات الخاصة لكل دولة، التي يرون في الدولة نتاجاً غربياً استهدف تحطيم الوحدة الإسلامية لأغراض السلطة عليها.
هذا الحلم لا يختلف عن حلم “داعش”، ولكن الاستراتيجية الإدارية والعسكرية للدولة الإسلامية -الحفاظ على وإقامة مؤسسات إدارة مدنية مثل المحاكم، والمدارس والمستشفيات؛ وكذلك بناء أجهزة تمويل تستند إلى الضرائب، والرسوم، والابتزاز وبيع النفط إلى جانب التبرعات- خلقت صورة دولة تعرف كيف تدير ملايين المواطنين من خلال السيطرة عليها وتوسيع حدودها. إجرامية “داعش” واستخدامه الناجع لوسائل الإعلام الإلكترونية مثل: شبكات التواصل الاجتماعي، استخدمها كوسيلة إدارة وفرض رعب، هكذا نجح في وقف انتفاضة مدنية ضده إلى درجة أنه اعتُبر في عدد من المحافظات، وبالأساس في العراق، بديلاً للسلطة المركزية التي تعاملت مع الأقلية السنية كسكان معادين أو على الأقل متآمرين.
بعد هزيمته الجغرافية، لم ينه داعش حياته، لقد تحول إلى تنظيم إرهابي “عادي” حارب من أجل بقائه. مصادر تمويله الأساسية أغلقت ومعها سوياً تبددت “التجربة الوحيدة لإقامة دولة إسلامية كبديل للدول القومية. يصعب التصديق بأن محاولة كهذه ستعود في المستقبل المنظور، ولكن شظايا تحطم “الدولة الإسلامية” ستواصل التفجر والتفجير في أرجاء العالم.
القدس العربي