خلافاً للآمال الحذرة التي عقدت مطلع عام 2019 على صعود شخصية سياسية توصف بـ«الهدوء والاعتدال»، على قمة هرم السلطة في بغداد، هو رئيس الوزراء المستقيل عادل عبد المهدي، يبدو مشهد البلاد مطلع العام الجديد 2020، غاية في الغموض والضبابية، بعد الهزة الشديدة التي أحدثتها الاحتجاجات العراقية التي انطلقت مطلع شهر أكتوبر (تشرين الأول) على كل المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
وحتى الربع الأول من عام 2019، لم تواجه حكومة عادل عبد المهدي، تحديات كبيرة تمكن المراقبين من الحكم على أدائها، وقدرتها على النجاح في إدارة البلاد الخارجة تواً من حرب امتدت لنحو ثلاث سنوات ضد تنظيم «داعش»، ومعالجة المشكلات والإخفاقات الراهنة. إلا أن حادث غرق «العبارة» في الموصل في مارس (آذار)، وتسببه بوفاة أكثر من 120 مواطناً، وطلب عبد المهدي من البرلمان إقالة محافظة نينوى نوفل العاكوب، وتحميله مسؤولية ما حدث، بعث برسالة إيجابية عن الدور الإيجابي الذي يمكن أن يضطلع به عبد المهدي في قيادة البلاد إلى بر الأمان. غير أن ملامح ذلك الأداء بدت أكثر وضوحاً بعد انتهاء الربع الثاني من العام، وتصاعدت شيئاً فشيئاً، حدة الانتقادات والآراء المشككة في أداء الحكومة ورئيسها. ومع أنها ورثت مشكلات كارثية لنحو عقد ونصف العقد، إلا أن المواطنين لم يلمسوا فرقاً أو تحسناً في أوضاعهم الاقتصادية، على الرغم من الموازنة المالية الضخمة (88.5 مليار دولار أميركي) وهي الأكبر منذ 2003. كما لم يشهد ملف الخدمات والبنى التحتية تطوراً ملحوظاً، والأهم من كل ذلك لم تحرز الحكومة، حتى ذلك التاريخ، تقدماً يذكر في ملف مكافحة الفساد الأكثر إلحاحاً على المستوى الشعبي منذ سنوات.
ومع احتدام الصراع الأميركي – الإيراني، وتصاعد العقوبات الاقتصادية على طهران، وقعت حكومة بغداد بين فكي ذلك الصراع الشرس، وبدت في أحيان كثيرة حائرة بين علاقات الشراكة الاستراتيجية طويلة الأمد مع الولايات المتحدة، وبين ما تفرضه علاقات الجوار والتحالف المعلن لبعض قوى العملية السياسية مع إيران. ومع تصاعد الهجمات التي شنتها الطائرات المسيرة (الدرون) ضد مواقع عديدة لمعسكرات «الحشد الشعبي» في بغداد وأكثر من محافظة، اتضح أن العراق وسيادته يقعان في قلب عاصفة الصراع الإيراني – الأميركي، مثلما اتضح أن الحكومة عاجزة تماماً، سواء على مستوى ردع الفصائل المسلحة المتهمة بتخزين الأسلحة الإيرانية داخل أراضي بلادها، وبالتالي عدم إعطاء الذريعة لإسرائيل أو غيرها في التطاول على السيادة الوطنية، أو على مستوى قدرة البلاد العسكرية على ردع أي اعتداء خارجي. وسيكون ذلك العجز، أحد عوامل تأجيج مشاعر الغضب الوطنية والخروج بمظاهرات حاشدة لإسقاط النظام في شهر أكتوبر اللاحق.
وحيال الأسئلة الملحة التي يطرحها الشارع العراقي عن الانتهاكات المتواصلة لسيادة البلاد، صمت رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، أسابيع عديدة، قبل أن يتهم إسرائيل علناً نهاية شهر سبتمبر (أيلول)، بالوقوف وراء تلك الهجمات، لكنه لم يكشف عن أسبابها ودافعها، في مقابل تكهنات محلية تشير إلى معركة لا تخطئها العين بين إسرائيل والولايات المتحدة، من جهة، وإيران وحلفائها من جهة أخرى على الأراضي العراقية. وعلى الرغم من إصدار عبد المهدي أمراً ديوانياً في تلك الفترة لضبط إيقاع هيئة «الحشد الشعبي»، إلا أن دلائل غير قليلة كانت تشير إلى علو كفة الفصائل المسلحة على كفة الحكومة والدولة العراقية. وصار ينظر محلياً إلى رئيس الوزراء «الهادئ والمعتدل» الذي أتى بصفقة ملتبسة بين تحالفي «سائرون»، الذي يدعمه مقتدى الصدر، وتحالف «الفتح»، الذي يضم غالبية القوى «الحشدية» الحليفة لإيران، باعتباره الشخصية الواقعة تحت تأثير «الفتح» ورجاله. وأخذ تحالف «سائرون» يعلن شيئاً فشيئاً تخليه عن دعمه.
في منتصف سبتمبر، سعى رئيس الوزراء العراقي إلى تطمين العراقيين حول مستقبلهم الاقتصادي، عبر زيارتين قام بهما إلى المملكة العربية السعودية والصين لتوقيع اتفاقيات متعددة للنهوض بواقع البلاد الاقتصادي والاستثماري. إلا أن حادثين وقعا نهاية الشهر كانا كفيلين بتراجع شعبية رئيس الوزراء إلى مستويات غير مسبوقة، ومهدا للغضب الشعبي اللاحق الذي انفجر على شكل مظاهرات واعتصامات شملت العاصمة بغداد وغالبية محافظات جنوب وشرق البلاد ذات الأغلبية الشيعية (النجف، كربلاء، ميسان، واسط، بابل، البصرة، ذي قار، الديوانية، المثنى).
ففي 25 سبتمبر، شنت قوات مكافحة الشغب هجوماً عنيفاً بالمياه الحارة لتفريق مظاهرة لحملة الشهادات العليا من النساء والرجال قرب مقر الحكومة في منطقة العلاوي، وسط بغداد، ما أثار موجة غضب شعبية كبيرة. وبعد يومين من ذلك التاريخ، أمر رئيس الوزراء بعزل قائد جهاز مكافحة الإرهاب الفريق الركن عبد الوهاب الساعدي، ونقله إلى آمرة وزارة الدفاع، لأسباب غير مفهومة، قُوبلت برفض جماهيري واسع.
ولم تنتظر الجماهير طويلاً، لتعلن رفضها واحتجاجها على المسار الذي اختطته حكومة عبد المهدي، وخرجت أول طلائع المحتجين في غضون أربعة أيام من تلك الحوادث. ففي الأول من أكتوبر، الذي صادف انقضاء نحو سنة على تسلم عبد المهدي لمنصب رئاسة الوزراء، انطلقت المظاهرات في بغداد وأكثر من محافظة، وجاء التعامل بالقوة المفرطة من قبل قوات الأمن مع المتظاهرين منذ اليوم الأول، حيث سقط فيه ما لا يقل عن 10 قتلى وجرح العشرات ليزيد الأمور تعقيداً، ويكشف أمام المواطنين الوجه الآخر لرئيس الوزراء «الهادئ والمعتدل». استمرت المظاهرات والصدامات مع القوات الأمنية، لبضعة أيام، ثم توقفت لتزامنها مع زيارة «الأربعين» الدينية، ليتجدد انطلاقها، وبوتيرة أكثر تصاعداً في الـ25 من الشهر ذاته.
ومثلما بدا المتظاهرون في إطلالتهم الجديدة أكثر تصميماً على إحداث التغيير المطلوب الذي ارتفع سقفه، ليشمل إزاحة النظام كله وعدم الاكتفاء ببعض بمطالب الإصلاح الشكلي، أظهرت السلطات ورئيس الحكومة إصراراً مماثلاً على قمع المتظاهرين بقوة. ولم تكتف السلطات بقمع المتظاهرين بالرصاص الحي والقنابل المسيلة للدموع وحسب، وعمدت إلى قطع شبكة الإنترنت لنحو أسبوعين، إلى جانب حملة قمع وإغلاق طالت صحافيين وقنوات فضائية ووسائل إعلام مختلفة نشطت في تغطية الاحتجاجات، بل منعت الجهات الصحية من الإدلاء بأي معلومات حول أعداد الجرحى والقتلى.
ورغم القرارات والإجراءات التي قامت بها الحكومة، لامتصاص غضب المواطنين، مثل إطلاق حملة من التعيينات والوظائف والقروض، وقرارات أخرى اتخذها البرلمان تتعلق بخفض امتيازات المسؤولين الكبار، والتصويت على قانون جديد للانتخابات، فإن هذه الإجراءات لم تلق آذاناً صاغية من جموع المحتجين، وتحول الأمر إلى اعتصامات وقطع طرق وإضرابات عامة، قوبلت باستعمال مفرط للقوة من جانب السلطات، واتهمت فصائل مسلحة موالية لإيران بالقيام بتلك الأعمال، وتحدث وزير الدفاع العراقي نجاح الشمري، منتصف نوفمبر (تشرين الثاني)، عن «طرف ثالث» يقف وراء قتل وقمع المتظاهرين.
وحملت تلك الفصائل، إلى جانب قادة عسكريين، مسؤولية المجاز التي ارتكبت في محافظة ذي قار مطلع شهر ديسمبر (كانون الأول) ومجزرة ساحتي الخلاني والسنك في بغداد منتصف الشهر، علماً بأن عدد قتلى المظاهرات ناهز الـ500 شخص، وناهز عدد الجرحى (حتى تاريخ كتابة هذا التقرير) الـ20 ألفاً، ضمنهم عناصر قليلة من أفراد القوات الأمنية.
وبرز خلال «انتفاضة تشرين» من بين أسباب كثيرة دفعت الناس للتظاهر، الغضب الشعبي حيال النفوذ والهيمنة الإيرانيين على القرار السياسي في العراق ودعم إيران لمجاميع وفصائل مسلحة لا تحظى باحترام السكان، لذلك عمد المتظاهرون إلى مهاجمة وحرق القنصلية الإيرانية في محافظة كربلاء مطلع شهر نوفمبر، وقاموا بعملية حرق مماثلة، نهاية الشهر ذاته، للقنصلية الإيرانية الأخرى في محافظة النجف معقل المرجعية الدينية العليا، وتكررت عملية حرق الأخيرة مرتين في غضون بضعة أيام.
ومع الخطب المؤيدة للاحتجاجات، والمنتقدة للسلطات التي أطلقها المرجعية الدينية في النجف، ومع الضغوط الشعبية والدولية التي واجهها رئيس الوزراء المتهم بالخضوع لسلطة الميليشيات والفصائل المسلحة الحليفة لإيران، اضطر عبد المهدي، في الأول من شهر ديسمبر (كانون الأول)، إلى تقديم استقالته للبرلمان الذي قبلها بدوره.
وأصبح أمام رئيس الجمهورية برهم صالح، حتى منتصف الشهر، لاختيار مرشح جديد لرئاسة الحكومة، الأمر الذي ينظر إليه كثير من المراقبين بعين التشكيك، خصوصاً أن جماعات الحراك لا تثق بغالبية وجوه العملية السياسية بعد 2003.
ورغم الآمال العريضة التي يتمسك بها «شباب ثورة تشرين»، في رؤية بلاد آمنة ومستقرة مع مطلع العام الجديد، إلا أن كثيرين من المحللين والمراقبين للشأن المحلي يدركون حجم المصاعب والأخطار في طريق البلاد قبل الخروج من أزمتها الراهنة.
الشرق الأوسط