كيف ستملأ إسرائيل الفراغ الذي خلفته الولايات المتحدة في الشرق الأوسط؟

كيف ستملأ إسرائيل الفراغ الذي خلفته الولايات المتحدة في الشرق الأوسط؟

في الأسابيع القريبة المقبلة سيعرض الجيش الإسرائيلي على “الكابينت” التقدير الاستخباري السنوي، الذي أدخلت إليه هذه السنة أقاليم جديدة، وبينها العراق، بل وحتى أهداف بعيدة كاليمن. وسيتعين على الاستخبارات الإسرائيلية أن تتمدد في السنة المقبلة في فشخة واسعة وأليمة بين عدد غير مسبوق من الساحات تبرز إيران فوقها جميعها التي تسير نحو استئناف برنامجها النووي. وأشار رئيس الأركان كوخافي هذا الأسبوع إلى العزلة التي بقيت فيها إسرائيل في هذه الساحة، وثمة من يشتاق للاتفاق النووي السيئ الذي توصل إليه باراك أوباما.

جمرات الاحتجاج لا تزال تشتعل في إيران، وريح مفاجئة كفيلة بأن تشعلها بعد أن تبجح النظام هناك بقتل 1.500 من مواطنيه في خطوة قمع المظاهرات. ولكن حتى الاحتجاج الداخلي لم يضعف تصميم النظام على مواصلة التموضع في سوريا والتقدم نحو توسيع برنامجه النووي. “لا توجد عمليات رد ولا يوجد ردع لأعمال الإيرانيين”، قال رئيس الأركان كوخافي، وبكلمات أخرى، لا توجد الولايات المتحدة. فقد هجرت الشرق الأوسط ودور الشرطي العالمي.

لا يخفي الرئيس الأمريكي رغبته في اتفاق نووي جديد مع إيران، ومعقول أن يسر النظام في الجمهورية الإسلامية الوصول إلى اتفاق ينزع عنه عبء العقوبات. ولكن الإيرانيين في هذه الأثناء يرفعون السقف، ومجرد إعادة تحريك البرنامج النووي كفيل بإنتاج قصور ذاتي خاص به. منذ نيسان أنتجت إيران نحو 650 كيلوغراماً من اليورانيوم المخصب على مستوى متدن (4 في المئة) ضعف ما هو مسموح لها وفقاً للاتفاق السابق. وتيرة التخصيب الحالية لديها نحو 180 كيلوغراماً في الشهر، ما يعني أنها على مسافة أقل من سنة عن الهدف – 1.300 كيلوغرام اللازمة لإنتاج القنبلة الأولى.

لا تزال إيران تمتنع عن تخصيب اليورانيوم إلى مستوى أعلى، ولكنها تنصب أجهزة طرد مركزي متطورة في منشآت التخصيب في نتناز وفوردو، وتعمل على نماذج أكثر تقدماً، يمكنها أن تخصب اليورانيوم بسرعة أعلى بخمسين ضعفاً من أجهزة الطرد المركزي الموجودة. إن استئناف تخصيب اليورانيوم في منشأة فوردو التحت أرضية يبدأ في إعادة إيران لما وصفه إيهود باراك بأنه “مجال الحصانة”، المجال الذي لا يعود فيه حتى للهجوم الجوي إمكانية لوقفه.

لقد أعلنت إيران منذ الصيف بأنها بدأت تجمع كمية كبيرة من المياه الثقيلة وأنها ستستعد لتفعيل المفاعل في أراك، الذي يمكنه أن ينتج لها البلوتونيوم. هذه الإعلانات لم تحققها الجمهورية الإسلامية بعد، ولكنها كفيلة بأن تكون المرحلة التالية لابتعادها عن الاتفاق. لقد تحدث رئيس الأركان كوخافي هذا الأسبوع عن علماء يعملون على رؤوس متفجرة نووية، ولكن حتى الآن لا يوجد أي بديل على أن إيران استأنفت نشاط “مجموعة السلاح” – الهيئة التي يفترض بها أن تطور سلاحها النووي.

يبدو أن كوخافي قصد الآلية التي تنتج عند استئناف النشاط البحثي والإنتاجي، كما قصد العلماء المتحمسين الذين يدفعون نحو توسيع النشاط النووي وإثبات نجاعة بحوثهم. وحذر من “الاقتحام إلى الأمام” للإيرانيين، أي الركض نحو تركيب القنبلة الأولى، وإن كانت هذه تعد في الاستخبارات الإسرائيلية والأمريكية كالإمكانية الأقل معقولية. معقول أكثر أن تواصل إيران توسيع البرنامج النووي بحذر دون تحطيم الأواني والاندفاع نحو القنبلة. هذا سيقربها إلى مسافة انطلاقة قصيرة نحو القنبلة الأولى، أو يجلبها هي والأمريكيين إلى مفاوضات على اتفاق نووي جديد.

ولكن ثمة إمكانية أخرى.. استمرار الضغط الاقتصادي وتعاظم الاضطراب الداخلي كفيلان بدفع إيران نحو المبادرة إلى عملية هجومية تجاه الأمريكيين تجبر ترامب على العمل ضدها. مثل هذا التصعيد سيجرف إسرائيل أيضاً.

طوق خانق

إن مشكلة الجيش الإسرائيلي هي أنه في غياب حكومة وميزانية يضطر لمواصلة العمل تحت خطة العمل “جدعون” التي انطلقت على الدرب قبل نحو أربع سنوات. في حينه، عندما وقع الاتفاق النووي، قرر رئيس الأركان في ذاك الوقت، غادي آيزنكوت، استغلال نافذة الفرص وحرث مقدرات استخبارية ذات مغزى إلى جبهات ومجالات أخرى. أما الآن فالاستخبارات ملزمة بأن تعود للتركيز على إيران.

ستكون المهمة استئناف المتابعة الدقيقة للبرنامج النووي الإيراني كي لا نفاجأ بخطوة سرية أو بوتيرة تقدمها. وبالتوازي سيتعين على إسرائيل أن تجد السبيل للعودة إلى إبطاء التقدم الإيراني. في الماضي نسبت لإسرائيل عمليات تخريب كهذه وغيرها للعتاد النووي، بما في ذلك تصفية علماء، ويجدر بالبرنامج النووي المتجدد أن يلتقي إعاقات كهذه في المستقبل القريب أيضاً. وإلى جانب ذلك، سيتعين على سلاح الجو أن يؤكد مرة أخرى خياره العسكري ضد البرنامج النووي، وذلك لأنه إذا ما فشل كل شيء، ستكون لدى إسرائيل إمكانية لا تعيق التقدم الإيراني. وسيتطلب هذا استثمارات كثيرة في التدريب على الطيران لمسافات طويلة، والتزود بأسلحة ذات صلة، والاستعداد لمواجهة محتملة مع حزب الله في مثل هذا السيناريو.

لقد حاول كوخافي هذا الأسبوع إجراء احتواء للتوقعات، سواء مع الجمهور الإسرائيلي أم اللبناني، لما هو متوقع من الطرفين إذا ما وصلنا إلى مثل هذه المواجهة. فالجبهة الإسرائيلية الداخلية قد تتعرض لضربات أليمة، لم يسبق أن شهدتها. ولن يكون لإسرائيل مفر غير أن تضرب كل المناطق التي يعمل منها حزب الله. نصر الله يعرف هذا، ومن المهم تذكيره به بين الحين والآخر. مهم أيضاً أن يفهم العالم والمحكمة الدولية في لاهاي سبب ضرر آلاف المواطنين اللبنانيين في مثل هذه المعركة.

منذ ضربت حوامات غريبة الخلاطة المخصصة لإنتاج الصواريخ الدقيقة، يحذر نصر الله تسريع مشروع دقة الصواريخ. فلا يوجد بعدُ إنتاج لصواريخ دقيقة في لبنان، وفي الأشهر الأخيرة ليس هناك تحويل لصواريخ “غبية” إلى دقيقة. ولكن نصر الله لم يتخلَ عن هذا المشروع الرامي لأن يحقق له توازناً استراتيجياً ضد إسرائيل. وقد ألمح كوخافي بأنه إذا قام بحركة حادة في هذا الاتجاه، فستقرر إسرائيل العمل ضد المشروع، حتى بثمن المخاطرة بحرب.

***

في 2019 انشغلنا كثيراً بغزة، وعملنا في سوريا، وحسب منشورات أجنبية أيضاً في لبنان والعراق وسيناء. في العام 2020 سيتجه اهتمامنا أساساً إلى الشمال وإيران. الفراغ الذي خلفته الولايات المتحدة في المنطقة يملأه النفوذ المتعاظم للروس.

بعد سنة ونصف من تشجيعنا لترامب على الانسحاب من الاتفاق النووي تكثر علامات الاستفهام على الحكمة في هذه السياسة. صحيح أن إيران تضررت بشدة من استئناف العقوبات الأمريكية ودخلت في أزمة اقتصادية، بل وربما اجتماعية خطيرة أيضاً، ولكنها باتت أكثر عدوانية، وأكثر تصميماً على مواصلة توثيق طوق الخنق الملفوف على رقبتنا، ونحن أكثر عزلة في الصراع أمامها.

القدس العربي