حقّق كتاب Nos illustres inconnus: Ces oubliés qui ont fait la France”” أو “أعمالنا غير المعروفة ـ المنسيون الذين صنعوا فرنسا” لمؤلفه الكاتب الفرنسي جان لوي ديبري نجاحاً مبهراً منذ صدوره في أواخر العام الماضي عن دار ألبين ميشيل، حيث اجتاح قراؤه المكتبات الفرنسية باحثين عن أولئك الجنود المجهولين الذين جعلوا من فرنسا البلد الذي هي عليه اليوم، بلد الحرية والإخاء والمساواة.
إلى جانب أن Jean-Louis Debré سياسي بارز شغل مناصب رسمية عديدة في الدولة الفرنسية، من بينها تنصيبه وزيراً للداخلية في عهد الرئيس الأسبق جاك شيراك، تأتي شهرة الكتاب ووصوله إلى قائمة الأكثر مبيعاً، من كونه لامس ضمير وعواطف الفرنسيين وركّز في دمجه بين العام والخاص، على 29 شخصية تركت بصمتها في الماضي والحاضر الفرنسي، لكنها وللأسف لم تأخذ حقها من الشهرة والتقدير.
وفي مقدمة كتابه، وجّه ديبري رسالة لأحفاده جميعاً، كتب فيها: “لا تنسوا أبداً الرجال والنساء الذين ساعدوا في كتابة تاريخ بلدكم. لا تتذكروا فقط التواريخ. تاريخنا الوطني مليء بالشخصيات اللامعة، حيث الكثير منهم اليوم غير معروف لمعظمنا. إلا أن افكارهم وقناعاتهم وأعمالهم وأمجادهم المنسية شكّلت معالم مجتمعنا، ورسمت ملامح وخصائص الجمهورية الفرنسية”.
في الحقيقة لم تكن تلك الرسالة موجّهة فقط لأحفاد ديبري، إنها رسالة لجميع الفرنسيين والأوروبيين على حدٍ سواء. فأبناء اليوم بحاجة لإنعاش ذاكرتهم ببعض الأسماء التي نسيها تاريخ غير آبهٍ بأهميتها في زمانها والزمان الحالي. إن اولئك المنسيين، لم تكن فكرة أو كلمة “الجمهورية” عادية بالنسبة إليهم، إنما كانت مفهوماً وحلماً يمزج بين الفردي والجماعي، ويتطلب من أجل تحقيقه الخيال والجرأة والشجاعة والعدل.
جهد نسائي
بالإضافة إلى المقدمة والخاتمة وصفحات الببلوغرافيا، قسّم ديبري كتابه إلى أربعة أقسام. الأول حمل عنوانه من شعارات الجمهورية الفرنسية “حرية، المساواة، الإخاء”، وتضمّن مقالات تختصر مواقف من خاضوا في مجال حقوق المرأة وحقوق الإنسان والمساواة بين الجنسين.
وقبل أن يبدأ بسرد إنجازاتهم وبطولاتهم ـ إن صحّ التعبير ـ أوضح أن الهوية الوطنية للفرنسيين وافتخارهم بانتمائهم وشعورهم بوجود مصير جماعي، بالإضافة إلى إيمانهم الشديد بالجمهورية، إنما يعتمد على مبدأ الحرية الذي بدونه لا يمكن أن تتحقق المساواة أو الإخاء.
وإذ يتوقف عند المعنى الحقيقي للحرية يسأل: هل تتوافق الحرية التي يطالب بها كل إنسان مع الحرية الجماعية للمجتمعات؟ الإجابة على هذا السؤال تكاد تكون محسومة بالنسبة إلى أولئك المنسيين الذين أسّسوا المجتمع الفرنسي. فحريتهم الشخصية تواءمت مع المساواة السياسية والمدنية ضمن معادلة منطقية كانت بمثابة الطموح الذي قاموا بالمستحيل من أجل تحقيقه وحقّقوه.
هنا أخصّ جان لويس الجهد النسائي من خلال تسليط الضوء على محاولات نسائية جريئة سمحت للمرأة بدخول ميادين السياسة والطب والمحاماة، وسمحت لها بالتصويت وإبداء الرأي وتقرير المصير. الأمر الذي جعلها شريكةً حقيقيةً للرجل ضمن نظام متكامل يقوم على المساواة في الحقوق والواجبات. فكان هناك أول طبيبة، أول طبيبة نفسية، أول صحيفة نسائية وغيرها من الإنجازات التي حقّقتها المرأة الفرنسية وسط مجتمع كان ما زال يقدّس السلطة الذكورية.
وعلى الرغم من أنه لم يخصّها بصفحاتٍ، لم ينسَ ديبري في أمثلته التي ذكرها في هذا الخصوص نفيسة سيد كارا أول امرأة مسلمة تشغل منصباً وزارياً في الجمهورية الخامسة وأول مسلمة في حكومات فرنسا، وشجاعتها في توعية النساء الجزائريات بحقوقهن وتحريضهن على المطالبة بحريتهن في تقرير مصائرهن بما في ذلك ارتداء الحجاب ورفض الزيجات المدبرة.
جان لويس ديبري.jpg
غلاف الكتاب
أول برلماني مسلم
خاض القسم الثاني “حرية المعتقد والعلمانية” في الحياة السياسية للمجتمع الفرنسي ومراحل فصل الدين عن الدولة. وفي تمهيده له بحث ديبري في العلمانية وتمظهراتها داخل وخارج الدستور الفرنسي على مر السنين ومع تبدّل الجمهوريات، بدءاً من إعلان حقوق المواطنة لعام 1789 الذي نصّ في المادة رقم 10 منه على أنه لا ينبغي لأحد أن يقلق بشأن آرائه حتى الدينية منها ضمن شروط احترام الآخر، وصولاً إلى المعنى الصّريح لمصطلح “العلمانية” الذي يجب على الدولة أن تمارسه من أجل الحفاظ على سلامة الجميع، الملحدين والمؤمنين بكافة أنواعهم، وما بين النوعين من تدرجات.
أبرز مثال على صعود العلمانية، هو الطبيب الفرنسي فيليب غرينير (1865 ـ 1947) الذي تناول ديبري سيرته كأول نائب مسلم في البرلمان الفرنسي وأشار إلى أن انتخاب مسلم عام 1896 من قبل مواطني أوت دوبس المنطقة التي تتميّز بسيطرة الديانة الكاثوليكية فيها، أثار صخباً شديداً في باريس وكل فرنسا، سواء على الصعيدين السياسي والإعلامي، أم على الصعيد الشعبي.
إنها حادثة فريدة للغاية من نوعها، استحقت من ديبري الوقوف عندها والبحث في أهم المواقف في حياة غرينير التي أدّت إلى اعتناقه الديانة الإسلامية. فهذا الطبيب الشاب المنحدر من عائلة برجوازية، اكتشف الإسلام الحقيقي في رحلته إلى الجزائر بين عامي 1890 ـ 1894، حيث تضامن مع أهل البلد الذين كانت تنتهج فرنسا إبقاءهم في حالة من الفقر والجهل والتبعية بما يخدم الهدف الاستعماري. فتعرّف على القرآن عن قرب، وأعجب بتعاليمه ومبادئه الإنسانية التي يعلّمها، تاركاً الدين الكاثوليكي الذي علّمته إيّاه والدته.
أن يصبح هذا الطبيب غريب الطباع المسلم، نائباً عن مواطنيه الذين لم يستطيعوا بعد التعود على فكرة فصل الكنيسة عن الدولة، هي ثورة وتقدّم لا يستهان به أبداً. ولا بد من الاعتراف أن غرابة مطالبه التي طالت وضوع قوانين للحد من شرب الكحول في فرنسا وغيرها من الأفكار الأخرى ذات البعد الاقتصادي، أدّت إلى خروجه من البرلمان وتركه للسياسة، وانضمامه إلى قافلة المنسيين في التاريخ السياسي والجمهوري الفرنسي.
الأمة الفرنسية والقوة الأوروبية
تطرّق القسم الثالث “فرنسا والمؤسسات” إلى هيكلة المجتمع الفرنسي، متحدثاً عن الإصلاح البرلماني، التصويت، ومفهوم الأمة. ورأى في تمهيده له أن الأمة تعبّر عن نفسها من خلال مؤسسات معتمدة بحرية من الشعب أو ممثليهم. وبالتالي فإن الدستور هو تنظيم حكم القانون القاضي بضرورة ألا يستفيد أصحاب السلطة الوطنية من الصلاحيات غير المحدودة المحتمل حصولهم عليها.
وبالعودة إلى التاريخ نجد أن فرنسا عرفت 11 دستوراً، كان أولها في العام 1791 استمرّ تطبيقه لمدة 21 شهراً فقط. مع العلم أنه يتم حالياً تطبيق دستور الجمهورية الخامسة الذي تمّ تعديله 24 مرة.
من أبرز شخصيات هذا القسم هو المؤرخ والكاتب الفرنسي الإشكالي إرنست رينان (1823 ـ 1892) الذي طرح سؤال “ما هي الأمة؟” كموضوع المؤتمر الذي خاضه في جامعة السوربون يوم 11 مارس 1882، داعياً إلى عدم الخلط بين الأمة والعرق. فالأمة هي كيان يجمع مواطنين تركوا خلافاتهم واختلافاتهم وراء ظهورهم راغبين بالعيش معاً، رافضين التشكيك بانتمائهم القومي، متمتعين بالحرية التي ينشدونها.
ومرةً أخرى أكّد رينان أن الأمم هي ضمان لحرية الأشخاص التي ستضيع إذا كان للعالم قانون واحد وسيد واحد فقط. ولا يهم إن كانت الأمم ليست بالأمر الأبدي، أو أن نوعاً مثل الاتحاد الأوروبي سيحلّ محلّها، المهم في ذلك الوقت من وجهة نظره أن وجود الأمم أمر ضروري لحرية الإنسان.
أما القسم الرابع “أوروبا” فمن عنوانه يدلّ على مواضيعه التي ركّزت على القارة الأوربية كأمة واحدة لها خصائصها المتكاملة. مبيّناً أنه ما بين نتائج الحرب العالمية الثانية بما نتج عنها من تقسيمات وتحالفات، وما تلاها من أحداث ومعاهدات تكلّلت بالاتحاد الوروبي وبعملة اليورو كقوة اقتصادية عظيمة، بالإضافة إلى الكثير من الاختلافات والمشادات بين الدول الأوربية، قد كتب التاريخ الطويل في بناء أوروبا المليء بالموقف المتناقضة.
ومع ذلك كم عدد الشخصيات العظيمة التي لعبت دورها بإخلاص في هذه النقاشات من أجل أوروبا اليوم؟ إنهم كثيرون دون شك، من بينهم السياسي الألماني الفرنسي روبير شومان الذي شغل منصب رئيس وزراء فرنسا بين نوفمبر 1947 وحتى يوليو 1948، باعتباره أحد الآباء المؤسسين للاتحاد الأوروبي، حيث عمل بجد طيلة سنوات لتأسيس أوروبا المتحدة. والسياسي الفرنسي رينيه بيلغن الذي عمل على إنشاء جيش أوروبي يضمّ أفراداً من جميع الدول الأوربية أثناء فترة تنصيبه رئيساً لمجلس الوزراء في الحكومة الثامنة من الجمهورية الرابعة.
أفكار الأمس حقائق اليوم
وصف ديبري في خاتمة كتابه أهداف مهمته التي تلخّصت في استحضار حياة وأمجاد 29 شخصاً قدّموا لفرنسا وأوروبا ما يجب علينا تذكّره حتى اللحظة. مشيراً إلى أننا قد لا نؤيّد جميع الآراء التي أعرب عنها هؤلاء اللامعون الغير معروفين الذين صنعوا المجتمع ووضعوا حجر الأساس للجمهورية بمعناها الحقيقي، لكن هذا لا يمنع من ضرورة الاستماع إليهم وإثراء تجاربنا بتجاربهم.
ثم أكّد على وجهة نظر الكاتب والمفكّر أناتول فرانس الذي قال أن جميع الأفكار التي يقوم عليها المجتمع اليوم كانت هدّامة قبل أن تصبح وصائية. وإذا كانت مبادئنا واضحة لنا في الوقت الحالي، فهذا بفضل الرجال والنساء الذين دافعوا عن قناعاتهم في زمانٍ مضى لم يكونوا على اتفاقٍ معه، ربما.
إذاً.. لقد تحدّث ديبري عن ثورات غير معروفة لأجيال اليوم، ولم تحظَ بنصيبها من الشهرة. ثورات خاضها رجال ونساء في القرنين التاسع عشر والعشرين أتاحوا للأجيال اللاحقة بعدهم، كافة الحقوق المدنية والإنسانية والكثير من الإصلاحات على الصعيدين الاجتماعي والسياسي.
وفي ما يقارب الـ 297 صفحة من القطع المتوسط، حاول أن يحيي ذكرى بعض الجنود المجهولين، موجّهاً لهم تحيته الخاصة.
اندبندت العربي