هي أشبه بلعبة القط والفأر… تلك الصراعات العلنية تارة، والخفية تارةً أخرى، بين واشنطن وطهران… فهي تخفت أو تخبو فترة، وتتكشف جليةً في فترات أخرى… ولعل بداياتها الأولى تجلت منذ العام ألف وتسعمئةٍ وتسعة وسبعين.. العام الذي تربع فيه الملالي على عرش إيران، بعد ثورتهم على نظام الشاه بهلوي..
كثيرة هي المحطات والأزمات التي تخللت هذا الصراع.. وأكثر منها المواقف التي رسمها هذا الصراع في أكثر من أربعين عاماً..
إلا أن شرارتها الأولى التي لا جدال فيها، تمثلت باقتحام السفارة الأميركية في طهران قبل نحو أربعين عاماً، وما رافقها من أحداثٍ وأزماتٍ أوصلت الصراع بين طهران وواشنطن إلى مستوياتٍ عالية جداً، في خطورتها، وأبعادها، وطبائعها، وبالتالي نتائجها الخطيرة التي أثرت ليس على المنطقة وحسب، بل على العالم أجمع.. والحجة الأساس لدى الطرفين، هي الدفاع عن المصلحة العليا لكلٍ منهما..
لكن الأغرب من ذلك، بدأ منذ العام ألفين وثلاثة، وهو العام الذي اجتاحت فيه قوات واشنطن العراق- ولغاية اليوم، هو التحول في مسارات هذا الصراع من ناحية، وتغير أدواته واستراتيجياته وأحداثه ونتائجه، والمسارح التي تجري عليها أحداثه من ناحيةٍ ثانية.
وهذه التحولات.. بحسب الكثير من المتابعين، تعدُ تعقيداً جديداً وخطيراً في نفس الوقت، منح الصراع الأميركي الإيراني ملامح وتوجهات جديدة، مثلما منحه الفرصة لانضمام أطراف جدد، ووسع من دوائره إقليمياً ودولياً، وهو ما انعكس سلباً على الكثير من البلدان والجماعات من جهة، وسمح بظهور جماعاتٍ وتياراتٍ وأحزابٍ، زادت من تأزم الأوضاع في تلك البلدان من جهةٍ ثانية.
وثمة من يرى، بأن الفصل الثاني من مسرحية هذا الصراع الطويل والمعقد والدامي، والتي عرضت أحداثه مؤخراً على مسرح العراق، وأسفر عن قصف واشنطن لمعسكرٍ للحشد الشعبي في الأنبار، أعقبها ردٌ مباشر تمثل باقتحام سفارة واشنطن ببغداد، لينتهي المشهد في هذا الفصل المسرحي -وفقا لما رسمه وأخرجه السيناريست الأميركي وجسده المخرج الإيراني- بقصف أميركي لموكبٍ في محيط مطار بغداد، أسفر عن قتل قائد فيلق القدس الإيراني اللواء قاسم سليماني، ونائب قائد الحشد الشعبي العراقي أبو مهدي المهندس، وآخرين، إنما هو دليلٌ حي على ما أسلفنا من اطروحات.
وقبل أن ينتقل الطرفان المتصارعان إلى أحداثِ الفصل الثالث من مسرحية الصراع الأميركي الإيراني، نستطيع أن نستشف بعض ملامح أحداثه وأزماته، من خلال ردود الأفعال العراقية والعربية والعالمية، فضلاً عن تصريحات الطرفين المتصارعين.
عراقياً.. هيئة الحشد الشعبي العراقي توعدت بالثأر لقائدها المهندس، في حين دعا رئيس الجمهورية برهم صالح الى إعلاء صوت الحكمة وضبط النفس وتغليب المصلحة الوطنية العليا، بدوره دعا رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي، إلى عقد جلسة استثنائية للبرلمان بعد مقتل المهندس وسليماني، معتبرا الحادث خرقاً لسيادة العراق، ولم يكن رد فعل رئيس البرلمان العراقي محمد الحلبوسي ببعيدٍ عن سابقيه، حين حذر من تداعيات هذه العملية، مطالبا الجميع بضبط النفس، في حين وجه زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر، جيش المهدي ولواء اليوم الموعود لأن يكونوا باستعداد تام لحماية العراق، أما حركة النجباء، فقد أصدرت بيانا تعهدت خلاله بالرد على الهجوم الأميركي وترجمة المعركة المقبلة الى ثورة، ولم يختلف موقف حزب الدعوة عما سبقه، حين أدان العملية ووصفها بالحماقة الكبرى، داعيا الحكومة العراقية لإعادة النظر بعلاقتها بواشنطن، في وقتٍ وصفت فيه المرجعية الدينية الحادث بـ”الاعتداء بالغاشم”، واعتبرته خرقا سافرا للسيادة العراقية، وانتهاكا للمواثيق الدولية، في ظل تعالي أصوات مطالبة بتشريع قانونٍ ينهي الوجود الأميركي في العراق بالسرعة الممكنة.
إيرانيا.. دعا المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني لعقد اجتماع طارئ لبحث الغارة الأميركية التي استهدفت قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، وتوعد المرشد الإيراني علي خامنئي الولايات المتحدة الأميركية بردٍ قاسٍ، من جهته أكد الرئيس الايراني حسن روحاني، ان انتقام طهران من العملية التي استهدفت قائد فيلق القدس قاسم سليماني، سيطال الولايات المتحدة الأميركية، فيما هدد رئيس مجلس الشورى الإيراني علي لاريجاني بالثأر لسليماني، من جانبه، وبعد خسارة قائده، هدد المتحدث باسم الحرس الثوري الايراني رمضان شريف، بأن يتحول الفرح الحالي للأميركيين الى عزاء لهم.
عربياً.. أدان الأمين العام لحزب الله اللبناني حسن نصر الله، مقتل أبو مهدي المهندس وقاسم سليماني، ودعا “المقاومة” للثأر، في حين نعت حركة حماس مقتل سليماني والمهندس ومن معهما، وتعهد الحوثيون في اليمن للثأر من الأميركيين، وأدان الرئيس اللبناني هذا الفعل.
أميركياً.. قال الرئيس الأميركي دونالد ترمب، أن سليماني قتل وأصاب الآلاف من الأميركيين على مدى فترة طويلة من الزمن، وصرح البنتاغون أن الجيش الأميركي قتل سليماني بتوجيه من ترمب لحماية الأميركيين في الخارج، وجاء رد فعل وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، مطابقاً لمن سبقوه، حين قال، إن خبر مقتل قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني، أثار فرحا وابتهاجا في الشارع العراقي، داعياً عبر وزارة الخارجية رعايا بلاده إلى مغادرة العراق فوراً، وقال إن واشنطن تريد أن يعرف العالم أن هناك هجوما وشيكا كان يحضر له سليماني، وسيتم توفير كل معلومة ممكنة بهذا الشأن، وأكد أن بلاده ستواصل ردع إيران والرد عليها عندما يستدعي الأمر ذلك.
أما موقف رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي، فجاء مغايراً حين وصفت اغتيال قائد فيلق القدس الإيراني، قاسم سليماني بأنه سيثير خطر التصعيد في المنطقة، كذلك كان موقف المرشح للانتخابات الأميركية للعام الحالي، جو بايدن، حين قال، إن الرئيس دونالد ترمب ألقى إصبع ديناميت في برميل بارود، أما السيناتور الجمهوري، ليندسي غراهام، فقد أيد خطوة ترمب وباركها، وخالفه الرأي السيناتور الديمقراطي كريس مورفي، الذي حذر من تداعيات عملية قتل قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، على الأوضاع الإقليمية.
وهنا.. تتباين المواقف بين مؤيدٍ ورافض، وبين مباركٍ ومحذر، وتتضح أكثر بالعودة إلى المرجعيات الإيديولوجية الأميركية، ففي حين يبارك الجمهوريون هذه الخطوة، يحذر الديمقراطيون أو بعضهم من عواقبها.
عالمياً.. لا تختلف ردود الأفعال العالمية تجاه قتل سليماني والمهندس ومن معهما، إلا باختلاف طبائع العلاقات الدولية نفسها، إذ نجد المواقف الغربية عموما تبارك هذه الخطوة، في حين نجد موقف التحالف الروسي التركي الصيني، ينتقد هذه الخطوة ويعتبرها فتيلاً سيشعل أزمة أقوى.
وهنا تجدر الإشارة إلى موقف إسرائيل المبارك جداً لهذه العملية، إذ قطع رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو زيارته لليونان، وأشاد باغتيال سليماني، ورفع حالة التأهب الأمنية تحسبا لعمليات انتقامية إيرانية، وقال نتنياهو، إن سليماني يتحمل مسؤولية مقتل أميركيين وأبرياء كثيرين، وإنه قام بالتخطيط لتنفيذ أعمال هجومية أخرى، مضيفا أنه مثلما يحق لإسرائيل الدفاع عن نفسها، فإن للولايات المتحدة أيضا حق الدفاع عن نفسها.
موقفٌ آخر تجدر الإشارة إليه، هو موقف دول الخليج العربي عموماً، والمملكة العربية السعودية على وجه الخصوص، إذ لا شك أن أغلب دول مجلس التعاون الخليجي رحبت بقتل سليماني والمهندس ومن معهما، واعتبرته خطوة أميركية تستحق التقدير والإشادة، سواء كان ذلك من خلال التصريحات الرسمية، أم من خلال ردود الأفعال الضمنية التي يمكن استشفافها من خلال تناول وسائل إعلام تلك الدول للموضوع.
والأهم من مواقف دول الخليج تجاه هذا الموضوع، وردود أفعالها، هو الخطر المحدق بالمملكة العربية السعودية تحديداً، ومصالحها في المنطقة، إذ يرى الكثير من المتابعين، أن إيران، بكيانها المباشر، أو من خلال أذرعها في المنطقة العربية، ستحاول الثأر من أميركا بضربِ مصالحها وحلفائها في المنطقة، خصوصاً وأن جغرافية المكان، بين أميركا وإيران من جهة، وفارق القوة والإمكانات من جهةٍ ثانية، ستجعل من حلفاء الولايات المتحدة الأميركية، وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية، أول وأهم الأهداف التي ستسعى إيران وأذرعها في المنطقة للثأر منها، خصوصاً وأن الحوثيين توعدوا صراحةً بالثأر لسليماني، ما يعيد إلى الذاكرة حادثة قصف منشأتي أرامكو السعودية، التي وعلى الرغم من تبني الحوثيين مسؤوليتها، إلا أن أصابع الاتهام كانت ولا تزال تشير إلى إيران في تدبير وتنفيذ تلك العملية، وبالتالي، فإن تهديدات إيران وحلفائها بالثأر لقائد حرسها الثوري ورفاقه، تدخل دول الخليج عامةً، والسعودية والكويت والإمارات والبحرين على وجه الخصوص في دائرة الخطر.
ليس هذا وحسب، بل أن الأهداف التي قد تدخلها طهران ضمن قائمتها الانتقامية، قد تطال القواعد الأميركية الواقعة ضمن المساحة التي تغطيها الترسانة الباليستية الإيرانية، والتي تتواجد في أغلب دول الخليج، والعراق، وأفغانستان، وغيرها من المناطق الأرضية والبحرية.
وبحسب آخر الإحصائيات، فإن لدى أميركا أعداد كبيرة من الجنود في قواعدها المنتشرة في قارة آسيا، والذين يصلون إلى قرابة أربعين ألف جندي، يتوزعون على كلٍ من: أفغانستان (12000) جندي، قطر (10000) جندي، العراق (5000) جندي، البحرين (4000) جندي، السعودية (3000) جندي، الكويت (1800) جندي، تركيا (1700) جندي، سوريا (1000) جندي، مصر (300) جندي، فضلاً عن إرسال واشنطن اليوم نحو (3000) جندي إضافي إلى منطقة الشرق الأوسط، كإجراءٍ احترازي، ما يشير إلى قضيتين في غاية الأهمية، الأولى، خطورة الوضع العسكري المحدق بالمنطقة، والتي تتخذ واشنطن كل إجراءاتها الاحترازية لحماية مصالحها فيها، والثانية، تعدد الخيارات المتاحة لدى طهران وأذرعها في اختيار الأهداف العسكرية الأميركية المباشرة، لتوجيه ضربات موجعة لها ثأراً لمقتل سليماني ومن معه.
السؤال الذي يطرح نفسه في هذه الحالة، هل ستفكر طهران بالثأر لسليماني من واشنطن، من خلال استهداف قواعد الأخيرة أو مصالحها أو حلفائها في المنطقة، سواء في العراق، أو في الخليج العربي، أو في أفغانستان؟
وعلى الرغم من أن الإجابة الشافية عن هذا السؤال لا تملكه سوى طهران، إلا أن المنطق يستشف أن طهران لن تتجرأ لتخطو هذه الخطوة، وذلك ليقينها بأن الرد الأميركي سيكون رادعاً وحاسماً، فواشنطن تضع تحت مرمى أسلحتها المتطورة أهدافاً إيرانية استراتيجية حيوية، ولديها القدرة والإمكانية لشلِّ قدرة إيران العسكرية كاملةً خلال ساعاتٍ فقط، وهذا يعطي إحساساً بأن إيران في موقفٍ حرجٍ لا تحسد عليه، فهي أمام خيارين أحلاهما مُر، اما الرد أو عدم الرد على مقتل قائد حرسها الثوري قاسم سليماني، فإن اختارت الرد والثأر، فهي تدرك يقيناً أن الرد الأميركي سيكون قاسياً وحاسماً وسريعاً، وسيدمر ترسانتها العسكرية، وسيقضي على اقتصادها المتهاوي أصلاً، وسينهي سياساتها الداخلية، وسيمحي وجودها في المنطقة وبلمح البصر، أما إذا اختارت السكوت وعدم الرد، حينها ستكون طهران قد قبلت أن تستمر وهي تدرك أن جبروتها قد أهين وأُذِل.
أي الخيارين ستختار إيران؟ هذا ما سيتضح جلياً بعد تشييع جثمان قاسم سليماني يوم غدٍ الأحد في “طهران”.
الدكتور عبد الله الشيخ
وحدة الدراسات العراقية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية