تعرّض أكثر عن 300 ألف مدني سوري للتشريد من منازلهم خلال الأسابيع الأربعة الأخيرة، منذ استئناف قوات النظام وقوات روسية هجومهما الوحشي ضد إدلب.
في وقت سابق من عام 2019، خلّف هجوم استمر 5 أشهر مئات الآلاف من المشردين وأكثر عن 1000 قتيل في صفوف المدنيين. ويعيش حالياً ما يصل إلى 3.5 مليون مدني في منطقة إدلب، التي تمثل نحو 3 في المائة من إجمالي مساحة سوريا. وتبعاً للتقديرات الحالية للسكان، فإن هذا يعني 20 في المائة من مجمل الـ17 مليون نسمة الموجودين حالياً في سوريا. ونظراً لضخامة العدد وتكدسه في جيب صغير، فإن هذا يجعل منهم أهدافاً سهلة للطائرات السورية والروسية التي تستهدف على نحو خاص تجمعات المدنيين والبنية التحتية، سواء مدارس أم مستشفيات أم أسواق.
وفي تلك الأثناء، يقف العالم متفرجاً وملتزماً الصمت التام ويبدو لامبالياً تجاه التطورات الجارية على جبهة الحرب السورية المشتعلة منذ نحو 10 أعوام. ومع هذا، فإن تبعات ما يجري في إدلب قد ترسم ملامح مستقبل سوريا، وهو بلد يبدو مرشحاً بالفعل لسنوات كثيرة قادمة من غياب الاستقرار والمعاناة. على الجانب الآخر، يرتكب النظام السوري وشركاؤه من الروس أكثر حملاتهم وحشية وإجراماً على مدار الحرب، بينما لا يمكن تفسير الصمت الدولي سوى أنه دعم فعلي. وبالنظر إلى فداحة المخاطر الإنسانية التي ينطوي عليها هذا الوضع، تبدو هذه مأساة متكاملة الأركان. وعلى خلاف الحال مع جميع العمليات السابقة التي شنها النظام، لا يتوافر أمام سكان إدلب أي طريق للفرار. بجانب ذلك، فإنه مثلما اتضح مراراً من قبل، فإن كثيراً من سكان شمال غربي سوريا عارضوا على نحو متكرر الوجود المهيمن للمتطرفين، الذين لا يزالون موجودين حتى اليوم، ومن خلال وقوفنا ساكنين، فإننا نخاطر بدفع بعض من هؤلاء السوريين إلى أحضان الجماعات المتطرفة.
في الواقع، كان لقرارنا الجمعي في الغرب والشرق بوقف دعم الحركات المناهضة للأسد داخل سوريا عامي 2016 و2017 دور مباشر في تمهيد الطريق أمام سلسلة متوالية من الانتصارات العسكرية للنظام السوري خلال السنوات الأخيرة. واليوم، فَقَدَ ما كان يوصف ذات يوم بالمعارضة المعتدلة أو التيار الرئيسي للمعارضة أهميته تماماً. وتخلى كثير من شركائنا السابقين عن القتال تماماً، وسعوا للجوء في تركيا أو الأردن أو أوروبا. وباع بعض منهم نفسه إلى تركيا وتنازل عن مواقفه الثورية مقابل راتب ووظيفة مرتزق، سواء في شمال سوريا أو ليبيا. ولا يزال القليل مشاركين في القتال في إدلب، لكن قدرتهم على فرض أنفسهم أصبحت محدودة، بعد أن فاقتهم قدرة منذ أمد بعيد جماعات متطرفة على صلة بتنظيم «القاعدة».
ومثلما كتبت من قبل، منها كتابات في هذه الصحيفة الغراء، فإن بشار الأسد لم يفز بالحرب في سوريا، وإنما فقط نجا منها، وخرج منها حياً. أما الدولة والأمة التي يسيطر عليها اليوم فممزقة ومحطمة ومدمرة. وليست هناك إمكانية لتحقيق عملية إعادة بناء ذات معنى حقيقي، في الوقت الذي تمنى المحاولات الروسية لتحقيق «مصالحة» بالفشل. ولا يزال تنظيما «داعش» و«القاعدة» موجودين على نحو راسخ داخل مناطق سورية، وكذلك الحال مع جماعة «حزب الله» وكثير من الميليشيات التي تسيطر عليها إيران.
أما الفساد اليوم، فأصبح أضخم من أي وقت مضى، في وقت يعاني فيه الاقتصاد من الانهيار. ونتيجة استخدامها حق الفيتو داخل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، تبدو روسيا عاقدة العزم على إنهاء جميع المساعدات الإنسانية المتدفقة عبر الحدود إلى داخل سوريا، ما يجبر المجتمع الدولي على نقل جميع المساعدات عبر بوابة النظام في دمشق. وبالتالي فإن ملايين السوريين ممن يعيشون خارج المناطق الخاضعة لسيطرة النظام يبدو أنهم في طريقهم لأن يقضوا عاماً دونما مساعدات خلال 2020.
في ظل هذه البيئة البائسة، تبقى الثورة المضادة للأسد صامدة دونما هزيمة، لكنها تغيرت، ذلك أن تآكل التيار الرئيسي من المعارضة إلى درجة قاربت التلاشي داخل سوريا وفّر فرصاً استثنائية للمتطرفين، بما في ذلك «داعش» و«القاعدة». ومع ذلك، تبدو الجهة الأكثر احتمالاً للانتفاع من هذا الوضع «هيئة تحرير الشام»، الجماعة التي كانت تابعة فيما مضى لـ«القاعدة» وتهيمن حالياً على كثير من أرجاء إدلب. ورغم أن كثيراً من الدوائر الثورية تشعر نحوها بالكراهية والشك، فلا تزال «هيئة تحرير الشام» أكثر جهة مؤهلة لأن ترث الثورة في سوريا، سواء نجت إدلب أم لم تنجُ. وبينما تحتفظ جماعة «تنظيم حراس الدين» الموالية لـ«داعش» و«القاعدة»، بأجندة عالمية واضحة ومعلنة، يتركز اهتمام «هيئة تحرير الشام» حصراً على المسرح السوري.
وفي بيان أعلنه في 24 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، طرح زعيم «هيئة تحرير الشام»، أبو محمد الجولاني، تقييماً لحالة الثورة السورية وقدم نافذة على رؤية الجماعة المستقبلية. وأشار الجولاني إلى أنه بعد 9 سنوات من الحرب، فإن تحطم الدولة السورية يعتبر دليلاً على النجاح الثوري، وليس إخفاقه. وأضاف أن الأسد لم تعد له أهمية تذكر اليوم، بينما تقبع سوريا فعلياً تحت احتلال روسي وإيراني، ما يجعل النضال المسلح سعياً «للاستقلال» ضرورة. ورغم استخدامه مصطلحات في كثير من المواضع، بدت هذه الرسالة موجهة إلى جمهور أوسع من السوريين الذين لا يزالون متمسكين بمناهضة نظام الأسد وحلفائه. ومع انقسام «القاعدة» واستمرار حديث «داعش» عن النضال العالمي ضد «الصهاينة والصليبيين»، ترمي رسالة «هيئة تحرير الشام» لاجتذاب يسار الثورة. وهذه بالتأكيد رسالة خطيرة.
ومع بداية 2020، تبدو إدلب مؤهلة لأن تظل منطقة صراع مكثف داخل سوريا. وبجانب استمرار أعمال القتال التركية – الكردية، والعربية – الكردية، والإسرائيلية – الإيرانية، من المحتمل أن تشهد «داعش» تعافياً بطيئاً ومستمراً، خاصة في قلب الصحراء. إلا أن الأهم من ذلك أنه من المحتمل أن يكون عام 2020 عام انتشار المقاومة المسلحة داخل عدد أكبر من الجيوب داخل سوريا. ونظراً لاعتمادها في استرداد قوتها على الرفض المستمر لنظام الأسد، والممارسات الوحشية والفاسدة التي يتبعها، والسخط العميق الذي يشعر به كثيرون، فإن جماعات مثل «هيئة تحرير الشام» تبدو مؤهلة لقيادة حركة حرب عصابات واسعة عبر أرجاء البلاد. وينبغي أن يشكل ذلك مصدر قلق كبير للشرق الأوسط. أما الحل الوحيد فهو إرساء العدالة الحقيقية والمحاسبة في سوريا، وجيران سوريا يتحملون المسؤولية الأساسية عن دفع المجتمع الدولي بهذا الاتجاه.
الشرق الاوسط