تضاربت الآراء على مدى أكثرمن ساعتين حول الهدف الذي ضرب قرب مطار بغداد الدولي، فجر يوم الجمعة 3 يناير/كانون الثاني، وانجلى دخان السيارة المتفحمة عن هدف كبير، أو كما يسميه الصحافيون (سمكة كبيرة)، وستكون للعملية تداعيات عراقية محلية وإقليمية ودولية بحسب المراقبين. فالقراءة الأولية لما حصل أنها عملية اغتيال لهدف كبير هو الجنرال قاسم سليماني، أهم جنرال إيراني، ويعده المراقبون الرجل الثاني بعد المرشد الأعلى في إيران، قائد فيلق القدس والمسؤول عن العمليات الخارجية الإيرانية، التي تسوق تصدير الثورة الإيرانية إقليميا وعالميا.
وكان برفقة سليماني القادم من سوريا إلى بغداد عدد من الشخصيات، ربما كان أبرزها جمال جعفر محمد علي، المعروف إعلاميا باسم أبو مهدي المهندس، نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي في العراق بالإضافة إلى شخصيات من تشريفات الحشد، كما نشرت بعض وسائل الإعلام تصريحات غير دقيقة عن سقوط شخصيات من حزب الله اللبناني، كانت برفقة سليماني في رحلته المقبلة من بيروت، إذ تم الحديث أولا عن مقتل عضو المجلس السياسي في حزب الله اللبناني الشيخ محمد كوثراني، وتم نفي الخبر لاحقا، ثم أشيع خبر مقتل سامر عبدالله، مسؤول جهاز العمليات الخارجية في حزب الله اللبناني، وهو صهر عماد مغنية أحد قادة الحزب البارزين، إلا أن مصادر رسمية من حزب الله نفت سقوط قتلى من عناصرها في الغارة الأمريكية التي اغتيل فيها الجنرال سليماني.
العملية التي نفذتها القوات الأمريكية، بأوامر مباشرة من الرئيس دونالد ترامب، ذكّرت بنمط العمليات التي نفذتها إسرائيل ضد قيادات حماس والجهاد الاسلامي في الداخل الفلسطيني مثل اغتيال الشيخ أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي، إذ يتم رصد الهدف استخباراتيا، ثم تقوم طائرة هليكوبتر أو طائرة مسيرة بقصف سيارة الهدف، وهذا ما تم في عملية اغتيال سليماني والمهندس، اللذين اغتيلا بقصف طائرة امريكية مسيرة من نوع MQ-9 Reaper، لكن حتى الان لم تعرف تفاصيل المعلومات الاستخبارية التي توفرت للقوات المهاجمة، ليتم الانقضاض على هدف بهذا الحجم. وقد تساءل عدد من المراقبين عن عدم اتخاذ شخصيات بهذه الأهمية الحيطة والحذر عند تحركهم داخل العراق، خصوصا مع الأزمة المشتعلة بين إيران والولايات المتحدة، وكانت هنالك بعض الإشارات الخفية إلى احتمالية وجود فخ تم نصبه، واستقدام الجنرال سليماني إلى بغداد لتتم تصفيته بهذه الطريقة، لكن هذا الكلام يبقى حتى الأن في طور التكهنات.
تصاعد الأزمة الامريكية الايرانية اشتعل منذ أشهر، ووصل في بعض مفاصله إلى مديات خطيرة مثل، حادثة إسقاط إيران للطائرة الامريكية المسيرة، وشروع الولايات المتحدة في التهيئة لضربة عسكرية، تم إيقافها من الرئيس ترامب في الدقائق الاخيرة، وكذلك الضربات الصاروخية التي اصابت منشآت أرامكو النفطية السعودية، وتسببت في شل نصف صادرات البترول السعودية، وعلى الرغم من إعلان حركة انصار الله الحوثية مسؤوليتها عن الضربة، إلا أن اتهامات سعودية وامريكية وجهت لإيران، باعتبارها هي من جهز الحوثيين بالصواريخ البالستية. وامتلأت مياه الخليج بقطع البحرية العسكرية الامريكية، وفي المقابل رفعت ايران من جاهزيتها الحربية إلى أقصى المديات، لكن التصريحات السياسية المتبادلة بين الطرفين، كانت تشير إلى عدم رغبة الطرفين باشعال الحرب الشاملة، لكن بقيت الساحات الموازية مفتوحة لحرب بالانابة .
في العراق تعمدت فصائل المقاومة الإسلامية المدعومة ايرانيا، وعبر منظومتها الاعلامية العملاقة، إذ تمتلك 30 محطة تلفزيونية فضائية و40 اذاعة، الهجوم على الحراك الشعبي في مدن بغداد وجنوب العراق، وفي حملة إعلامية غير مسبوقة تمت فيها شيطنة الحراك واتهامه بالعمالة لمخطط امريكي ـ صهيوني لتدمير المنطقة، كما ثبت عبر قرائن عدة ضلوع ميليشيات من فصائل المقاومة الاسلامية في قنص المتظاهرين، وإطلاق النار عليهم، والمشاركة في اغتيال واختطاف واعتقال وتعذيب الناشطين المدنيين في عدة مدن عراقية. وفي خطوات متسقة مع هذه الجهود، ولسحب البساط من تحت أرجل المنتفضين العراقيين الصامدين في ساحات الاعتصام، ابتدأت عدة فصائل منذ أشهر بتوجيه ضربات بصواريخ مورتر وقذائف كاتيوشا وصواريخ قصيرة المدى، يتم إطلاقها على القواعد العسكرية التي تتواجد فيها قوات امريكية، مثل قاعدة عين الأسد، وقاعدة بلد، وقاعدة كيوان، والسفارة الامريكية في المنطقة الخضراء، وتم تسجيل أكثر من 21 اعتداء، من جهات لم تعلن مسؤوليتها عن الضربات، لكن تصريحات رسمية امريكية اتهمت كتائب حزب الله العراقي، بناء على مخلفات الصواريخ التي تم إطلاقها، وطلبت من حكومة عادل عبد المهدي ضبط الفصائل المنضوية تحت مظلة الحشد الشعبي، التي يجب أن تخضع لأوامر رئيس الوزراء، باعتباره القائد العام للقوات المسلحة، لكن من دون فائدة.
ضرب المصالح الأمريكية في الخليج العربي سيجر إلى غضب أمريكي قد يشعل حربا إقليمية شاملة لن تستطع إيران تحمل نتائجها
كانت خطة فصائل المقاومة الإسلامية، فتح صراع محدود مع الولايات المتحدة يسحب الاهتمام من ساحات الاحتجاج، وبالتالي تتم المطالبة بفض الاعتصامات، بحجة أن البلد أمام تحديات خطيرة، وكانت حادثة الاعتداء على قاعد «كيوان» شمال غرب كركوك، التي قتل فيها متعاقد امريكي، وأصيب عدد من الجنود بجروح، الشرارة التي أطلقت غضب الجيش الامريكي، الذي نفذ ضربات انتقامية على مقرات حزب الله العراقي في القائم داخل العراق، وكذلك داخل الأراضي السورية، وأدى الهجوم إلى وقوع حوالي 24 ضحية وإصابة العديد بجروح، ما أثار حالة سخط شعبي، ورفض للسلوك الامريكي، لكن اللافت في الأمر كان تصريح رئيس الوزراء المستقيل عادل عبد المهدي، عندما قال في حديث تلفزيوني، إنه قد تم ابلاغه من القوات الامريكية بالضربة قبيل تنفيذها، لكنه لم يستطع منع الامريكان من تنفيذها نتيجة إصرارهم، بمعنى أن القيادة العراقية كانت تعلم بالضربة، ولم تتخذ الإجراءات اللازمة، على الأقل لتقليل الخسائر.
تحول تشييع جثامين ضحايا القصف الامريكي إلى مسيرة احتجاج غاضبة من جمهور احزاب وميليشيات فصائل المقاومة الاسلامية، التي دخلت بسهولة إلى المنطقة الخضراء، وحاصرت السفارة الامريكية، كما حاول البعض اقتحام المبنى المحصن، من دون أن ينجحوا في ذلك، وكان على رأس المحاصرين للسفارة شخصيات رسمية وحزبية مثل ابو مهدي المهندس وفالح الفياض، وقادة الفصائل مثل قيس الخزعلي وهادي العامري وحامد الجزائري، ما احرج حكومة عبد المهدي وأضعف موقفها أمام الامريكان. الشعارات كانت تطالب بخروج الامريكان من العراق، عسكريا ودبلوماسيا، في مشهد ذكّر بحصار واقتحام السفارة الامريكية في طهران، إبان الثورة الايرانية عام 1979، بل إن البعض ذهب بعيدا، وتذكر مشهد هروب الامريكان من سايغون في فيتنام عام 1975 ووضع فيديو لاخلاء السفير الامريكي بطائرة مروحية من السفارة، ولم يتسن التأكد من صحة الفيديو المزعوم. كل ذلك دفع البنتاغون إلى إرسال 750 جنديا من مشاة البحرية، تم جلبهم في غضون ساعات من الكويت، لدعم حماية السفارة، وجالت المروحيات الامريكية في سماء المنطقة الخضراء لتراقب الموقف على الارض.
تم فض الاعتصام في اليوم التالي، وبدا أن هنالك ارتياحا لانتشار اإشاعة أن المعتصمين أصابوا هيبة الولايات المتحدة واذلوها، وفي غضون أقل من 72 ساعة جاء الرد صاعقا كبيرا غير متوقع، عبر عملية اغتيال الجنرال سليماني وابو مهدي المهندس رجل ايران القوي في العراق، وكانت التصريحات الامريكية الرسمية قد اتهمت الرجلين بالوقوف وراء الهجوم على السفارة الامريكية في بغداد. يتوقع المراقبون ردا ايرانيا، عبر اذرع ايران المنتشرة إقليميا، والمرجح الاكبر من ساحات المواجهة، وهي الساحة العراقية نظرا لتواجد بضعة الاف من جنود الولايات المتحدة في العراق، اما سوريا فتقريبا قد اخليت من الوجود الامريكي، كما أن ضرب المصالح الامريكية في الخليج العربي سيجر إلى غضب امريكي قد يشعل حربا اقليمية شاملة لن تستطع ايران تحمل نتائجها. أما امريكيا، فيرى المراقبون أن قرار ترامب كان متسرعا، وربما كانت وراءه محاولة للبحث عن مخرج من أزمة إقالته التي يفرضها عليه الديمقراطيون، وقد جاءت تصريحات نانسي بيلوسي زعيمة الاغلبية الديمقراطية في مجلس النواب سلبية، ووجهت اللوم للخطوة التي اتخذها الرئيس، إذ اعتاد الرؤوساء السابقون على أن يستمعوا لزعماء مجلس النواب الديمقراطيين والجمهوريين، قبل اتخاذ مثل هذه الخطوات الخطيرة، لكن يبدو أن ترامب حتى لم يستشر مستشاريه الامنيين في الامر. كما صرح جو بايدن نائب الرئيس الامريكي السابق، واصفا اغتيال الجنرال سليماني بالخطوة الخطيرة التي ستزيد من تعقيد المشهد في منطقة الشرق الاوسط وتجرها إلى مزيد من التوتر.
وتبقى الكرة الان في الملعب الايراني والكل يراقب؛ أين، وكيف ومتى، سترد إيران على الضربة الامريكية الموجعة التي تلقتها؟ أما العراقيون فهم يتلون صلواتهم وادعيتهم مع مطلع العام الجديد سائلين المولى أن يجنب بلدهم صراعات الاخرين التي لن تجلب سوى الخراب لعراقهم.
القدس العربي