عندما عينت مصر أحمد أبو الغيط أمينا عاما للجامعة العربية بتاريخ 10 مارس 2016 كتبت مقالا بعد أسبوع من ذلك التعيين في هذه الصحيفة بعنوان «الجامعة العربية لم تعد لا جامعة ولا عربية». وكل يوم يأتي تثبت الأحداث صدقية تلك اليافطة. فهذا الهيكل الهرم والمتآكل والغائب أبدا الذي يطلق عليه مجازا «الجامعة العربية» لم يعد يجمع أحدا وليس له علاقة لا بالعرب ولا بالعروبة بل تحول إلى مكتب صغير ملحق بالخارجية المصرية، يتصرف كما يريد له النظام المصري ولا يستطيع أن يخرج عن سياسته قيد شعرة. ومثل هذه البيانات التي تصدر من حين لآخر، والتي تعكس توجه السياسية المصرية، لا تثير في نفوسنا إلا الغثاء.
وسأتناول في هذا المقال موضوعين حديثين هما، قرار البرلمان التركي بتقديم المساعدات العسكرية لحكومة الوفاق الليبية، وموقف الجامعة العربية منه، بالإضافة إلى الموقف أو غيابه من قيام الإدارة الأمريكية باغتيال الجنرال الإيراني قاسم سليماني على أرض العراق.
من ناحية مبدئية كان على الجامعة العربية أن تقف ضد أي تدخل في الشؤون العربية، وأن تتخذ مواقف عقابية على كل من يحاول أن يعبث بالأمن القومي العربي، سواء من دول الجوار أو غيرها. كان على الجامعة العربية أن تلعب دورا إيجابيا، وأن تكون على مسافة واحدة من كل الدول الأعضاء، وأن تعمل لجانها المتخصصة لحل الخلافات بالطرق السلمية، وأن تكون جاهزة ومجهزة للتدخل السريع لحماية الشرعية والمدنيين، ونزع فتيل الخلافات والفصل بين المتحاربين أسوة بالاتحاد الافريقي والاتحاد الأوروبي ومنظمة الدول الأمريكية، التي تلعب أدوارا مهمة في حل النزاعات وردع المعتدين ومعاقبة مغتصبي السلطة.
لا بد أن نذكر أولا أن الجامعة العربية هي التي طلبت من مجلس الأمن الدولي التدخل في الشأن الليبي، لوقف المجازر التي كانت متوقعة في بنغازي في فبراير 2011. وبناء على تفويض من مجلس الأمن المستند إلى دعم الجامعة العربية اعتمد القرار 1973 بتاريخ 17 مارس، الذي شرعن تدخل قوات حلف الناتو لتدمر البلاد طولا وعرضا، شرقا وغربا، وتقتل العقيد معمر القذافي. حدثت انتخابات حرة وديمقراطية عام 2014 فازت فيها التيارات الإسلامية بأغلبية بسيطة. تحركت فورا القوى المضادة للثورة على الطريقة المصرية، وجيء بضابط كانت وكالة الاستخبارات الأمريكية قد أخرجته من سجون تشاد، ونقلته إلى زئير ثم أحضرته عام 1990 إلى الولايات المتحدة. هناك تم تأهيله وتحضيره لمهمة إجهاض ثورة 25 فبراير بالتعاون مع فرنسا، ذلك هو الجنرال المتقاعد خليفة حفتر الذي فرض إرادته على برلمان طبرق ورقى نفسه إلى مرتبة مشير. لكن المجتمع الدولي ممثلا بمبعوث الأمين العام آنذاك، برناردينو ليون، تابع اللقاءات مع كافة أطياف الشعب الليبي، إلى أن تم التوصل إلى اتفاق الصخيرات بتاريخ 17 ديسمبر 2015، ثم اجتمع مجلس الأمن واعتمد القرار 2259 بالإجماع بتاريخ 23 ديسمبر، الذي يعتبر خريطة طريق شاملة لإعادة ليبيا إلى طريق التعافي والسلام. ومن بين الدول التي صوتت لصالح القرار مصر، إضافة إلى فرنسا وبقية الدول دائمة العضوية. والقرار يدعو إلى تشكيل مجلس رئاسي ورئيس لحكومة الوفاق، التي ستكون القناة الشرعية الوحيدة التي سيتعامل معها المجتمع الدولي، ينص القرار في فقرته الثالثة على ما يلي:
إن مجلس الأمن «يؤيد بيان روما الصادر بتاريخ 13 ديسمبر 2015 الذي ينادي بدعم حكومة الوفاق الوطني، باعتبارها الحكومة الشرعية لليبيا، ويشدد على الحاجة الماسة لحكومة وفاق وطني، يكون مقرها في العاصمة طرابلس، لتوفر لليبيا الوسائل اللازمة لإدارة دفة الحكم وإشاعة الاستقرار والتنمية الاقتصادية، ويعرب عن عزمه في هذا الصدد على دعم حكومة الوفاق الوطني».
ما الذي جرى بعد ذلك؟ قامت حكومات مصر والإمارات والسعودية وفرنسا، بدعم خليفة حفتر بالمال والسلاح، الذي بدأ يحتل المدن واحدة بعد أخرى بالقوة المسلحة، ويرتكب المجازر الواحدة بعد الأخرى. وما جرى في بنغازي ودرنة وسبها موثق تماما في تقارير فريق الخبراء المعني بمراقبة انتهاكات القرارين 1970 و1973 (2011) وتقارير مجلس حقوق الإنسان. وقد أصدرت محكمة الجنايات الدولية مذكرة اعتقال بحق من وصفته بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، محمود الورفلي المساعد الأيمن لحفتر، لقيامه بالإعدامات الفورية خارج نطاق القضاء. كل هذا والجامعة العربية في حالة غياب تام.
مشهد مزرٍ أن يتقاتل الآخرون ويصفوا حساباتهم في بلاد العرب، الذين بفضل الزعامات الرديئة أخرجوا الأمة من التاريخ
أعلن حفتر الهجوم على طرابلس يوم 4 أبريل 2019. لم تستنفر الجامعة العربية، ولم تدن استهداف المدنييين في المدينة. استمرت الهجمات على مراكز مدنية مثل الهجوم الدموي على مركز الإيواء، الذي قتل فيه 53 مهاجرا، والهجوم على نادي الفروسية، ومطار معيتقة، والهجوم على عرس في مدينة المرزق، وضرب الأحياء السكنية في تاجوراء وسوق الجمعة ووادي ربيع، ومستشفى ميداني على طريق المطار، وليس آخرها الكلية العسكرية وقتل المتدربين. لم تجتمع الجامعة العربية ولم تثر هذه الضحايا أي أسف أو قلق. لكنها تداعت فورا لإدانة قرار البرلمان التركي الذي أجاز مد يد العون للحكومة الليبية الشرعية. إرسال قوات إلى ليبيا جاء بناء على طلب رسمي من فايز السراج، المعترف به دوليا رئيسا شرعيا لليبيا، وهو الذي ألقى كلمة ليبيا في الجمعية العامة في الأمم المتحدة، مثله مثل الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي. فهل يجوز لرئيس الشرعية في اليمن أن يدعو نحو 15 دولة بقيادة السعودية التدخل في اليمن، علما أنه لا يسيطر على شبر واحد في اليمن؟ وهل يجوز لبشار الأسد، الرئيس الشرعي في سوريا، أن يدعو إيران وحزب الله وروسيا للتدخل في سوريا وإنقاذ نظامه، الذي وصل عام 2013 حد الانهيار؟ وما هو جائز لهادي والأسد غير جائز للسراج؟
ما نتمناه أن يكون الموقف العربي مبدئيا وسليما وصحيحا: إما ضد التدخل الخارجي بالمطلق، سواء كان المتدخل روسيا أو إيران أو تركيا أو الولايات المتحدة أو إسرائيل أو الإمارات أو مصر أو فرنسا، أو أن من حق السلطة الشرعية في أي بلد دعوة طرف خارجي لدعمها إذا شعرت بأن جماعة عرقية أو دينية أو ميليشيات إرهابية أو ضابط منشق يسعى لتقويض الشرعية.
وأود هنا أن أذكر الشعب التونسي العزيز، الذي أرى بعض الكتاب والصحافيين يصفقون لحفتر، بأن سقوط طرابلس في يد حفتر بالقوة المسلحة، سيعقبه فورا تدخل في الشأن التونسي، وسيبحث الثالوت المعني بإسقاط ثورات الشعوب عن ضابط مارق من الجيش التونسي ويدعمه، بحجة سيطرة النهضة، التي يصفونها بالإرهابية،على الحكم ويسعون لتقويض التجربة الديمقراطية الوحيدة في العالم العربي، التي نجت من تآمرهم لغاية الآن. هذا لا يعني أنهم سينجحون لكنهم بالتأكيد سيزعزعون استقرار البلاد.
قيام طائرة أمريكية بقصف سيارة الجنرال الإيراني قاسم سليماني، رئيس فيلق القدس ومساعده العراقي، أبو مهدي المهندس، نائب قائد الحشد الشعبي، يوم الجمعة في مطار بغداد، جريمة ترقى إلى مستوى «إرهاب الدولة». ولا يمارس مثل هذه الجرائم النكراء إلا الولايات المتحدة وإسرائيل، وتتفاخران بتنفيذها. ونستطيع أن نعدد مئات الجرائم التي ارتكبتها تلك الدولتان المارقتان من اغتيال سلفادور أليندي في تشيلي إلى اغتيال وديع حداد في بغداد إلى اغتيال الملك فيصل في السعودية. كان على الجامعة العربية، أن تدين هذه الجريمة بأقسى العبارات، لأسباب موضوعية مبدئية. فأولا: أسلوب الاغتيال مرفوض ومدان في العلاقات الدولية، ولا تمارسه إلا الدول المجرمة، التي تتصرف وفق قانون الغاب، بدون إكتراث للقانون الدولي. وقد أثبتت التجربة أن اغتيال الأفراد المهمين والمؤثرين يؤدي إلى تفاقم الصراع لا احتواءه. فاغتيال الحريري لم يتعاف منه لبنان إلى اليوم، واغتيال القائد خليل الوزير أجج الانتفاضة الأولى ووسعها، واغتيال يحيى عياش دفعت إسرائيل ثمنا باهظا له، وأطلق الانتفاضة الثانية بقوة، واغتيال ولي عهد النمسا فرانز فرديناند وزوجته في سراييفو عام 1914 أطلق الحرب العالمية الأولى.
ثانيا: كل اغتيال تمارسه الولايات المتحدة لا يمكن ألا أن يكون ضد مصالح الشعوب، فهي تغتال من يعارض مصالحها ويتصدى لها. نحن طبعا لا نؤيد أسلوب الإرهاب الذي يمارسه بعض من يصنفون، على أنهم يقتلون باسم الإسلام، لأن معظم هؤلاء صناعة أمريكية أصلا مثل بن لادن والزرقاوي والبغدادي، حيث تقوم الولايات المتحدة بالتخلص منهم عند انتهاء أدوارهم.
ثالثا: ارتكبت الجريمة على أرض عراقية، من المفروض أن تتمتع بالسيادة. وبما أن العراق عضو مؤسس في الجامعة العربية والأمم المتحدة كان يجب إدانة العملية باعتبارها انتهاكا أرعن للسيادة العراقية، بغض النظر عن الشخص المستهدف، فلماذا لم تقم الولايات المتحدة باغتياله في إيران؟
رابعا: هذا الاغتيال سيؤجج الصراع في منطقة مضطربة، وبحاجة إلى احتواء للنزاعات لا إضافة بعض الزيوت على نار ملتهبة أصلا.
إنه مشهد مزرٍ أن يتقاتل الآخرون ويصفوا حساباتهم في بلاد العرب، الذين بفضل هذه الزعامات الرديئة أخرجوا الأمة من التاريخ وعلى وشك أن يخرجوها من الجغرافية بعد أن تحولت إلى ملعب واسع للقوى الإقليمية الثلاث: تركيا وإيران وإسرائيل.
القدس العربي