يعتبر قطاع عريض من الإيرانيين الجنرال قاسم سليماني بطلاً شعبياً، يقدمونه كنموذج (فحولي) في ثقافتهم، بملامحه الصارمة ونظرته المتحدية، ويتناقلون روايات عن صولاته وجولاته، التي يقتنص فيها انتصاراته تارةً بذكائه ومكره، وأخرى بحزمه، وربما عنفه، ومع ذلك يدرك الإيرانيون أنه ليس صاحب القرار الأخير، وأن دوره تنفيذي، بينما المهندسون الحقيقيون للمعركة ككل، في مكان آخر، أين؟ الإيرانيون لا يعرفون ذلك أيضاً.
أتت الفكرة التي يقوم على أساسها النظام الإيراني الحالي، من خارج العصر ككل. فكرة تعزز نزعة الحكم الديني، وتقوم على الانتظار للمخلص (المهدي) بما يعني أن كل ما يفعله النظام يقع في صورة المؤقت والانتقالي، وأن الأمور مهما أصبحت سيئة ستتجه إلى التصحيح الحاسم في لحظة ما عندما يظهر المهدي.
لتمرير هذه الفكرة كان يجب القضاء داخلياً على معارضتها، التي ترتكز في الطبقة الوسطى والنخب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وبالطبع كان للشاه دوره في إصابة هذه البنى الاجتماعية بالوهن والرهان، على رغائبية الطبقات الأبسط والأفقر، خاصة بعد الانقلاب على رئيس الوزراء القوي محمد مصدق سنة 1953، ودخل النظام الإمبراطوري في ذلك الوقت في مشكلة خطيرة، فالفئات الشعبية كانت أقرب إلى الكهنوت، الذي اتخذ طبيعة ثورية مع الإمام الخميني، ولدى شعب كان يعتبر تقبيل قدم الشاه مشهداً مؤلفاً، رغم ما يحمله من مهانة، أتت الدعوة للوقوف لتحمل المعنى الرئيسي للثورة في ذلك الوقت. لنتفهم الأمر بالنسبة لرمزية سليماني لدى الإيرانيين، فهو ليس الرجل الذي يتوجه شرقاً فحسب، والذي تجتمع عليه أهواء الإيرانيين المتدينين، الذين يريدون تصدير ثورتهم، أو القوميين الذين يرونه يمارس الإذلال لأعدائهم التاريخيين من العرب، ولكنه قبل ذلك، وبتحليل لغة جسده، يظهر بوضوح تجاوبه مع رغبات الإيرانيين في تحقيق وجودهم في العالم، وعلى الأقل بين جيرانهم.
لم يكن سليماني صاحب القرار، فدوره كان في التنفيذ وتأثيره على القرار من خلال التغذية، التي يوفرها من المعلومات الميدانية، والسؤال بعد الرد الإيراني الأخير على اغتيال سليماني، يذهب تجاه البحث عن صاحب القرار في إيران، ولعل البعض سيتعجل الإجابة ليضعها عند الإمام خامنئي، الذي ربما يشكل الجزء الأخير من عملية صناعة القرار، وقد يذهب البعض إلى الحديث عن مجلس تشخيص مصلحة النظام، أو غيره من الأجهزة الكثيرة في إيران، والحقيقة أن جزءاً من القرار الإيراني يقبع في منطقة غيبية يقوم الجميع على حراستها، ويختلفون حولها، ويتحدثون عنها، وباسمها، ولكن بدون أن يكون أحد داخلها بالفعل، فهذه المنطقة تخيلية تدفع النظام بأكمله إلى أن يعيش دائماً على الحافة، وهو الأمر الذي يعد أسهل كثيراً من تحقيق الجنة على الأرض بالنسبة للإيرانيين، والتخلص دفعة واحدة من جميع المظلوميات التي تقع على الشعب الإيراني، وإتاحة فرص العمل والقضاء على أشكال التمييز العرقي، ومشكلات الفقر مثل المخدرات والعنف. إيران بلد يحفل بالثروات، إن لم يكن يزدحم بها، وتعداده السكاني لا يلقي عليه بالضغوط مثل باكستان أو مصر، والمشكلة الإيرانية تكمن في تعقيدات تاريخية واجتماعية كثيرة، وتتطلب عملية دمقرطة وقبولاً واسعاً بين أطياف الشعب الإيراني، وهو الأمر الذي لا يمكن لنظام معين، يريد أن يكتسب كتلة قوية وسيطرة كاملة أن يحققه، لأنه لا يمتلك نواة محددة، ولأنه ربما يشعل أسئلة كردية وأهوازية وبلوشية وتركمانية مختلفة، وربما يؤدي إلى تفتت البنية الحالية لإيران، تجاه بنى غير واضحة.
الأمريكيون كانوا يعرفون أن الرد لن يتأخر، ولكنه سيحمل لهم وللإيرانيين فرصة الدخول في جولة جديدة من اللعبة، وبعيداً عن الدخول إلى الحرب
أتى الرد على عملية اغتيال الجنرال سليماني ضمن شروط اللعبة، لا يمتلك الإيرانيون سوى الرد، والأمريكيون يعرفون أن الرد لن يتأخر، ولكنه سيكون رداً يحمل لهم وللإيرانيين فرصة الدخول في جولة جديدة من اللعبة، وبعيداً عن الدخول إلى الحرب، ويبدو أن الرئيس ترامب التقط عبارة أحد مستشاريه الأذكياء بأن الإيرانيين لم يكسبوا حرباً ولم يخسروا مفاوضات من قبل، وبالنسبة لرجل مثل دونالد ترامب توجه إلى كوريا الشمالية بطريقة استعراضية، يمكن انتظار أن يتداخل البازار الإيراني مع عروض الترفيه الأمريكية بطريقة مدهشة! بالنسبة للعرب الذين كانوا المسرح المفضل لعروض التفوق الإيراني، المتجسدة في شخصية وأداء الجنرال سليماني، فالأمر مختلف، فبين البراغماتية الإيرانية والاستعراض الأمريكي يبقون الجهة التي ستتحمل الأعراض الجانبية للوضع الراهن، فالخسائر المادية والبشرية ستحيق بهم بأكثر من الأمريكيين والإيرانيين، الذين لا يمتلكون رفاهية التضحية الواسعة أمام شعوبهم، على الأقل في هذه المرحلة، وكم يبدو الأداء بائساً عربياً بين التعصب والثرثرة، فالإيرانيون يدفعون أمريكا أمام من تبقوا على أحلامهم القومية بوصفها الشيطان الأكبر، بينما يتحالفون معها من تحت الطاولة في غزو أفغانستان ويتقاسمون معها العراق، والأمريكيون يصورون إيران بوصفها الخطر المحيق الذي يجب محاصرته وتقويضه.
طويت صفحة سليماني من التاريخ، ولكنه جزء من تفاصيل مشهد معقد للغاية، تغذيه حالة تغيب مشروع عربي في ظل مجموعة من المشاريع الإقليمية التي تتفاعل وتتكامل وتتقاطع وتتعارض، وتدفع ثمن التسويات والخسائر الجذرية والعرضية، مجموعة من الدول العربية، التي فقدت كل مشروع باستثناء افتراض عائم وغائم، بأن الأمور يجب أن تتحسن في العالم، وأنهم في ذلك الوقت، سيجدون عالماً يعطيهم الفرصة لاستغلال نقاط قوتهم الاستراتيجية، وهذه الفكرة في مجملها بائسة، وتمثل نوعاً من الغيبية السلبية مقابل الغيبية الايجابية في إيران، وكلتاهما ليستا في قاموس العصر ولا حتى التاريخ، ومع ذلك فالفكرة الباهتة بعد تغيب مشروعات عربية عالية النبرة، تخلق حالة من الارتهان لأي فكرة تكسب شيئاً من اللمعة، فكيف إذا اختلطت بالكاريزما والغضب؟
هي مسألة أدوار، فالصورة البطولية يجب أن تقوم على أرضية من البيروقراطية البراغماتية، وهذه أيضاً كانت غائبة لدى العرب، عندما حضرت الكاريزما مع عبد الناصر، وغيره بصورة أقل، كانت الكاريزما تلتهم كل شيء وتؤممه وتجعله جزءاً من الإلهام، الذي يختص به الزعيم، مهدياً حاضراً (صلاح الدين المعادل السني للمهدي المنتظر)، ولذلك وصلنا إلى محطة خسارة الحرب والمفاوضات معاً.
القدس العربي