تصاعدت المواجهة بين أميركا وإيران منذ انسحاب الرئيس ترامب من الاتفاق النووي الذي وقعته مع طهران إدارة سلفه ودول العالم الكبرى الأخرى، واتباعه سياسة العقوبات الاقتصادية والضغط الأقصى. لكن مقتل قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، الجنرال قاسم سليماني، ينهي عمليا وضعا استراتيجيا استمر منذ سنوات، فقد كانت الولايات المتحدة وإيران على الجانب نفسه في القتال مع تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). وقد شاهد الملايين في الشرق الأوسط، وخصوصا في سورية والعراق، أن هذا الوضع أدّى إلى مزيد من العنف والدمار، ومزيد من صعود إيران ومحورها في الشرق الأوسط. بعيدا عن نظريات المؤامرة التي آمن بها كثيرون، وهم يرون هاتين القوتين المسيطرتين في مناطقهم تعملان بهذه الطريقة، فإن ما حصل مأزق استراتيجي وقعت فيه إدارة الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، بعد الثورة السورية، تمثل في إطلاق سراح مقاتلين متشددين من السجون السورية أو هربهم في عمليات شهيرة من السجون العراقية، من أجل أن تتم شيطنة الأطراف المعارضة في البلدين، بفتح مناطقها أمام المقاتلين الذين سيطروا عليها بسرعة معلنين دولتهم الإسلامية.
كان المطروح منذ وصول ترامب إلى الرئاسة: هل تتمثل استراتيجيته بتغيير ذلك؟ وهل تستطيع أميركا وترغب في مواجهة تهديد المتشدّدين السّنة في تنظيمي الدولة الإسلامية والقاعدة، وفي
“ترامب يدفع بمزيد من القوات إلى المنطقة للتعامل مع تصاعد التوتر”الوقت نفسه، تواجه المتشدّدين الشيعة في إيران وفي المليشيات المتحالفة معها؟ جاء مقتل قاسم سليماني ليضع هذا السؤال في موقع الاختبار الفعلي. لم تكن العملية إعلانا من ترامب بالانسحاب التام من الاستراتيجية القديمة، فما زالت أولوية إدارته قتال تنظيم الدولة الإسلامية والجهاديين عموما، لكن السؤال انتقل إلى إيران نفسها، فعلى ردّها على مقتل سليماني وتحرّكات أميركا المقابلة سيعتمد كل شيء. لا تبدو إيران مستعدةً لحرب شاملة، لكن قيامها بعملية شبيهة بمقتل سليماني، مثل استهداف وزير أميركي، سيؤدي حتما إلى رد أميركي عسكري شامل في الداخل الإيراني. من هنا ستأتي أهمية الجبهة العراقية والجبهات الشرق أوسطية الأخرى، حيث ستلعب المليشيات والتنظيمات المتحالفة مع إيران دورا أساسيا في رد إيراني قد يأتي بطريقةٍ تجعل من الصعب على ترامب أن يستهدف الداخل الإيراني بطريقةٍ مؤلمة، تعقد الموقف بين النظام الحاكم وشعبه، وهي علاقة متأزمة أصلا.
تعرّضت إيران بمقتل سليماني لضربة قوية في قلب مؤسستها الحاكمة، ولن يكون في وسعها تعويضه بسهولة أبدا، فقد تمثلت قوة سليماني في أدواره المتعددة. تركّز دوره العسكري في قيادة فيلق القدس وتنظيم عمل المجموعات المسلحة والمليشيات المرتبطة بإيران في عموم الشرق الأوسط؛ فبالإضافة إلى العراق كان يقود الجبهات في سورية، حيث لعبت المليشيات الشيعية المدعومة من إيران دورا كبيرا في بقاء نظام بشار الأسد. وامتد دوره طبعا إلى لبنان، حيث حزب الله، الحليف الإقليمي المهم لإيران، وإلى اليمن، وإلى أفغانستان، وهي ساحة وجود مشترك لنفوذ واشنطن وطهران. وفي كل تلك الجبهات، تقدّمت إيران وحلفاؤها، واستطاعت أن تقاوم ضغوطا عسكرية كبيرة.
أما الدور السياسي الإقليمي لسليماني فكان كبيرا أيضا، فلم تخل حكومة عراقية في السنوات
“تعرّضت إيران بمقتل سليماني لضربة قوية في قلب مؤسستها الحاكمة”الأخيرة من بصماته ولمساته، ولم يشمل نفوذه وتأثيره الساسة الشيعة المعروفين بتحالفهم التاريخي مع إيران، بل امتد إلى أوساط في الكرد والسنة أيضا. كانت له جاذبية شخصية كبيرة، فقد كان نجما حقيقيا عند الأوساط المحافظة وأوساط الحرس الثوري الإيراني الذي هو قلب المؤسسة الحاكمة في البلاد. وفي إطار المواجهة الإيرانية مع أميركا، كان الوجه الأبرز في التحدّي الإيراني، وعلى هذا التحدّي والمواجهة تقوم الأسطورة المؤسسة للجمهورية الإسلامية.
أما أميركا فلم تستقبل مقتل سليماني بالطريقة نفسها التي تم فيها استقبال مقتل زعيم تنظيم الدولة الإسلامية، أبو بكر البغدادي، فقد كان هذا وجها لتنظيم ارتبط اسمه باستهداف المدنيين داخل أميركا وخارجها، وبتغطية إعلامية مكثفة لممارساته العنيفة في الشرق الأوسط. أما سليماني فلم يكن معروفا بصورة واسعة عند الأميركيين، لكن المواجهة مع إيران معروفة. غالبية الأميركيين لا تريد تحويل تلك المواجهة إلى حرب جديدة.
واجه ترامب عاصفة من النقد من خصومه السياسيين، بسبب عدم استشارة الكونغرس قبل تنفيذ قراره تصفية سليماني، واتهم بعدم امتلاك خطة للتعامل مع تداعيات القرار. وتخشى أميركا المنهكة من الحروب في الشرق الأوسط أن تدخل حربا أخرى، وقد كان انسحابها من الحروب التي وصفها ترامب بغير المنتهية وعدا ميزه عن غيره من سياسيي الحزب الجمهوري، حين ترشح للانتخابات الرئاسية. كان وعدا قرّبه لأوساط كبيرة من الناخبين الذين دفعوا ثمن حرب العراق التي بنيت على مبرّراتٍ، تبين كذبها، وحرب أفغانستان التي يشهد هذا العام دخول جيل جديد من الجنود الأميركيين إلى جبهاتها، وهو جيل ولد بعد هجمات “11 سبتمبر” في العام 2001، والتي أدت إلى الحرب. ولكن ها هو ترامب يدفع بمزيد من القوات إلى المنطقة للتعامل مع تصاعد التوتر، مسلحا فقط بتأييد صقور حزبه الجمهوري، وبأمل أن لا تؤدي المرحلة المقبلة إلى مزيد من الضحايا الأميركيين. تحد كبير يواجهه ترامب لإثبات نجاح سياسته في الشرق الأوسط، حيث باتت الكرة في الملعب الإيراني الذي ينتظر أن يأتي منه الرد في لعبة الصراع بين الطرفين التي انتهت قواعدها القديمة بمقتل سليماني.
رافد جبوري
العربي الجديد