معمر فيصل خولي
لم يكن مستغربًا أن يكون التصعيد الإعلامي الإيراني على خلفية اغتيال قاسم سليماني أقوى بكثير من ردها العسكري على القاعدتين الأمريكيتين في العراق.
هذا الرد يعني أن إيران لا يزال سلوكها الخارجي يتسم بعقلانية وحذر شديدين في التعامل مع الدول الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة إذا تعلق الأمر القيام بأي عمل عسكري مباشر.
نعم حجم الخسارة الإيرانية باغتيال قاسم سليماني كبير جدًا، لم تتعرض لها منذ انتهاء حربها مع العراق في عام 1988م، لكن النظام السياسي الإيراني ليس بتلك السذاجة في أن يقدم على خطوة عسكرية استفزازية من شأنها أن تسبب حرجًا شديدًا للولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي قد يفتح باب المواجهة العسكرية على مصراعيه.
فالنظام السياسي الإيراني قد يقبل بمرارة، أن يفقد قائد عسكري استطاع أن يثبت النفوذ الإيراني في عدة عواصم عربية، على أن يخسر ذلك النظام حكم الدولة الإيرانية، لأن أية مواجهة عسكرية مباشرة قد تكون نتائجها معروفة سلفًا نظرًا لتفاوت القدرات العسكرية والاقتصادية والتقنية بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران.
إذاً.. خشية طهران من المواجهة العسكرية مع واشنطن دفعتها للقيام بذلك الهجوم المتواضع جدًا، لأن نظامها السياسي يدرك بعمق القوة التاريخية والمعاصرة للولايات المتحدة الأمريكية.
في التاريخ المعاصر ما من دولة دخلت حربًا أو صراعًا ضد الولايات المتحدة الأمريكية إلا وانهزمت وتفككت، فقد كلّف الاعتداء الياباني على قاعدة بيرل هاربر الأمريكية في هواوي وقتل 2400 شخص، احتلال اليابان في آب/ أغسطس عام 1945م، وإنشاء قواعد عسكرية أمريكية فيها، كما أن النظام السياسي الإيراني، عايش الصراع الأمريكي السوفييتي والذي انتهى بتفككه إلى خمس عشرة جمهورية في عام 1991م. فقوة إيران الراهنة والمتحدية للولايات المتحدة الأمريكية!!، إذا ما قورنت مع القوة التاريخية لليابان والاتحاد السوفييتي تكاد لا تذكر!! أما قوة الولايات المتحدة الأمريكية المعاصرة فهي ماثلة للعيان ولا تحتاج إلى بيان.
وفي محاولة من إيران لاستيعاب الانتقادات التي وجهت لها، قال علي حاجي زادة، قائد القوات الجوية في الحرس الثوري الإيراني، إنه كان بإمكاننا “قتل 500 جندي أميركي في قاعدة عين الأسد”.
ونتساءل هنا: ما الذي منعكم من القيام بذلك؟، هل القيم الإنسانية؟! التي دفنتموها حينما قتلتم وشردتم من أبناء العراق وسوريا الملايين؟!!
أم أن دور الحرس الثوري انتهى عند هذا المستوى، ليتولى الأمر فيما بعد حلفائهم في بيئة المشرق العربي، وهذا ما أشار إليه بشكل ضمني علي حاجي زادة بقوله: “إن استهداف إيران لإحدى أهم القواعد الأميركية في المنطقة هو بداية عملية أكبر ستستمر في كل المنطقة، وأن الخطوات اللاحقة ستقوم بها ما سماها “جبهة المقاومة”.
يمكن تفسير الرد الإيراني المتواضع على القواعد العسكرية الأمريكية والذي لا يرتقي إلى مستوى الانتقام لقائد عسكري بوزن قاسم سليماني، ذلك الرد الذي بدى وكأنه محاولة من إيران لحفظ ماء وجهها ومحاولة لتخفيف حدة الأزمة، واسترضاء الأصوات المحلية فيها والتي تدعو إلى الانتقام وإظهار قوة حلفاء إيران في المنطقة.
وعليه يمكن تفسير الرد العسكري المتواضع، بناءً على ثلاث فرضيات، على النحو الآتي:
الأولى: تقول إن قاسم سليماني بعد ازدياد نفوذه الداخلي باتساع شعبيته في إيران، والخارجي بامتلاكه شبكة تأثير في العراق وسوريا ولبنان واليمن، أصبح يشكل تهديدًا على الرموز الدينية كعلي خامنئي، والعسكرية كحسين سلامي قائد الحرس الثوري الإيراني، لذا أصبح التخلص منه ضرورة واجبة، ولكن بصورة تحفظ للنظام السياسي الايراني استقراره وزيادة شعبيته وإظهار سليماني بمظهر البطل القومي.
فسواء كانت محاولة اقتحام السفارة الأمريكية فكرة سليماني التي عجلت باغتياله، أو من بنات أفكار القيادة الإيرانية من أجل التخلص منه، فهذا الأمر لا يعني الأمريكيون الذين نظروا لمحاولة الاقتحام على انها تطور نوعي في تغيير قواعد الاشتباك مع إيران، وأنه تجاوز للخطوط الحمر، واستخفاف بالقوة الأمريكية، لذا توجب على إيران أن تدفع ثمن تلك الحماقة، وربما هذا الثمن نال إعجاب القيادة الإيرانية معادلة خامنئي – سلامي، باغتيال سليماني، بالتخلص من عدو داخلي محتمل!!
أما الفرضية الثانية: فتقول إن إيران فضلت الانتقام سياسيّا وليس عسكريًا من الولايات المتحدة الأمريكية، من خلال استثمار حلفاء إيران السياسيين الأكثر قوة في البلاد، كما يتضمن مزيجاً من التهديدات والوعود التي تستهدف السياسيين العراقيين لإجبارهم على إخراج القوات الامريكية من البلاد.
وعلى الرغم من أن هذه الاستراتيجية يجري تطبيقها الآن، إلا أنه يمكن لإيران أن تزيد من ضغطها لضمان التزام الحكومة العراقية لإخراج القوات الامريكية من البلاد.
إن حلفاء إيران هم بالفعل في موقع جيد لمثل هكذا خيار، وان الارتفاع المفاجئ للغضب المناهض لأمريكا الذي سببته الهجمة ضد سليماني والمهندس – إلى جانب النفوذ الإيراني القوي في سوق الإعلام العراقي- سيعزز مثل هذا الخيار.
أما الفرضية الثالثة: والتي تقول إن النظام السياسي في إيران لا يمكن أن يضحي بحكم الدولة الإيرانية وأن يضحي بروابطه التاريخية في دمشق وبغداد وبيروت وصنعاء، ويدخل في حرب مباشرة مع الولايات المتحدة الأمريكية، هذه الحرب تتطلب من إيران جبهة داخلية متماسكة، وهذا الأمر مفقود فيها نتيجة حالة القلق الاجتماعي التي تعيشها منذ عقود، لذلك جاء القصف الإيراني لإظهار عزم إيران وقوتها، إلا انه لم يكن مصمم على ايقاع خسائر مادية وبشرية، كي تتجنب رد الفعل القوي من الولايات المتحدة الأمريكية، والذي سيكون على شكل تجرع إيران كأس السم الثاني.
المستقبل قريب المدى، أو حتى المتوسط المدى، هو من سيجيب على أية افتراضات اعتمدت القيادة الإيرانية – وإن كنت أدفع بالفرضية الثالثة- في ردها المتواضع على اغتيال قاسم سليماني.
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية