تم، في 23 أكتوبر/تشرين الأول سنة 1983، تفجير مقر القوات الفرنسية العاملة في لبنان في إطار القوات متعدّدة الجنسيات التي كانت تعمل تحت إشراف الأمم المتحدة، ما أدّى إلى سقوط 58 ضحية من قوات النخبة في الجيش الفرنسي. وبعد زيارةٍ تفقديةٍ، قام بها الرئيس الفرنسي حينذاك، فرانسوا ميتران، في اليوم التالي للعملية، إلى بيروت وإلى موقع التفجير، قرّرت القيادة الفرنسية، بعد اجتماع عاصف، الرد على من اعتقدت أنهم المسؤولون عن التفجير، وذلك بالاستناد إلى تقارير أجهزتها الاستخبارية، فتم تجهيز سيارة دفع رباعي في 7 نوفمبر/تشرين الثاني محمّلة بأكثر من مائة كيلوغرام من المتفجّرات لاستهداف المركز الثقافي الإيراني في بيروت. وفي الساعات الأخيرة، صدر أمر قيادي بعدم تفعيل جهاز التفجير، ليكون الأمر مجرّد رسالة لمن وراء المسؤولين عن العملية ضد الفرنسيين من دون إيقاع ضحايا. وتم إقرار عملية “بروشيه” التي تعتمد على قصف جوي في 17 من الشهر نفسه، مستهدفة ثكنة الشيخ عبد الله التابعة لحرس الثورة الإسلامية وحزب الله في سهل البقاع. وانطلقت طائرات فرنسية من حاملة الطائرات كليمنصو للإغارة على الهدف و”تدميره”. وبناءً أيضاً على تعليمات اللحظة الأخيرة، أنزلت الطائرات ما يقارب الثلاثين قذيفة على الثكنة التي كانت قد أُخليت من شاغريها، والذين أعلمتهم بالعملية الدبلوماسية الفرنسية، وبأمر مباشر من وزير الخارجية حينها كلود شيسون. وتضاربت الأخبار عن الضحايا في الثكنة. ففي حين أكدت المعلومات الأولية عدم وقوع ضحايا، أكّد ضابط من البحرية الفرنسية برتبة عالية أنه وقعت ضحية نتيجة القصف، وهي أنثى ماعز من المنطقة.
هدف الرئيس ميتران حينذاك كان توجيه رسالة سياسية إلى إيران وأذرعها الإقليمية، أنه قادر
“سجّل ترامب انتصاراً سياسياً داخلياً مهماً، بحيث إنه حرف النظر عن قضية العزل”على استخدام اللغة العنفية نفسها في مقابل عملياتهم التخريبية، ولكنه يُفضّل المسارات السياسية. وتأكيداً لنجاح هذا الخيار، تم تسجيل تواصل بارد بين القيادة الفرنسية والسلطات في طهران استمر بعدها عقوداً من دون أن يمنح فرنسا أية أفضلية في إدارة العلاقات الإيرانية مع الغرب، كما كانت أجهزة “الإليزيه”، كما وزارة الخارجية تراهنان. وفي المقابل، تم التخفيف من عمليات التخريب التي تقف وراءها إيران وجماعاتها والتي تستهدف فرنسا، عدا الاختطافات من هنا وهناك، والتي طاولت صحافيين وباحثين فرنسيين، وأدّت أحيانا إلى موتهم في الاعتقال، كما صاحب كتاب “دولة البرابرة” ميشيل سورا.
بعد عقود من هذا “الحوار” المتفجر بين إيران والغرب، وفي مقدمة الغرب فرنسا، عادت السياسة الغربية إلى محاورة إيران، عبر اغتيال الجنرال قاسم سليماني، وأسرعت طهران بالرد عبر قصف قواعد أميركية أُخليت من شاغليها قبل ساعات، بناء على تواصل تم عبر الوسيط العراقي، الوفي لحليفيه، الأميركي والإيراني، واللذين كانا قد اتفقا على العراق بعد أن أسقطت واشنطن نظام صدّام حسين وسلمت البلاد إلى طهران التي رسّخت طائفية الحكم وأسست لشبكات الفساد.
ومن دون الخوض في الرهانات الساذجة التي صدرت عن بعض العرب، ممن يعادون سياسة الهيمنة الإيرانية في المنطقة إثر عملية القتل الأميركية، والذين اعتبروا أن أمر طهران قد حسم، وما هي إلا ساعات أو أيام ليبحث ملاليها عن منفى يؤويهم، أظهرت مجريات الأحداث أن الحوار الفعلي بين واشنطن وطهران قد بدأ بصورةٍ أو بأخرى، وبأن نظرية أوباما المعتمدة على “عقلانية” الإيرانيين والمستبعدة “للا عقلانية” العرب، قد اعتمدها خلفه دونالد ترامب حرفياً. وبدأت التصريحات المخففة للاحتقان تتوالى من قادة البلدين، والدعوات المبطنة للتهدئة صارت عملة التبادل في الأيام القليلة الماضية، فعملية الانتقام الإيراني لاغتيال سليماني تمت بهدوء ومن دون أي إصابات، على الرغم من احتفاء بعض السذّج بنتائج وهمية لها، الأمر الذي وصل بإحدى صحف الممانعة الكاذبة في لبنان إلى أن يتصدّر صفحتها الأولى عنوان سوريالي يتحدث عن “بدء عملية التحرير الكبرى”.
لا يمكن التكهن بالنتائج بعيدة الأمد، لأنها ستعتمد على مسارات التفاوض ومآلاته. في المقابل، النتائج المباشرة لهذا الحوار المتفجّر صارت بادية للعيان، إلا لمن أعياهم التفكير الرغبوي،
“لا يمكن التكهن بالنتائج بعيدة الأمد، لأنها ستعتمد على مسارات التفاوض ومآلاته” وأطاح بصرهم وبصيرتهم، فقد كسبت إيران تعاطفاً عالمياً على مستوى المجتمعات المدنية المعادية للحرب في كل بلدان الغرب. كما تمّت العودة إلى اللغة الطائفية في المشهد العراقي الداخلي، بعد أن كانت الثورة الشعبية قد كسرت حواجز العزل الطائفي، وأنزلت المحتجين من كل الألوان إلى شوارع المدن العراقية للمطالبة بالخلاص من نظامٍ أسس له الإيرانيون والأميركيون. كما علت اللغة الطائفية على أصوات المحتجين في شوارع بيروت وسواها من المدن اللبنانية، وعاد الجميع إلى التخندق بصورةٍ أو بأخرى في مربعات الانتماء الطائفي دون الوطني.
ومن طرف واشنطن، سجّل ترامب انتصاراً سياسياً داخلياً مهماً، بحيث إنه حرف النظر عن قضية العزل التي كان يخضع لتبعاتها منذ أشهر، وفتحت الباب أمامه على مصراعيه للخوض في حملة انتخابات الرئاسة، معتمداً على انتصار عسكري، تمثّل بقتل خارج إطار القانون الدولي، ولو كان لمجرم حرب. وفي الختام، أين العرب في حسابات الربح والخسارة؟
سلام الكواكبي
الغربي الجديد