مع بداية العام الجاري، أُسدل الستار في قطاع غزة على مرحلة مُهمة من مراحل المقاومة الشعبية الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي، المتمثلة في “مسيرات العودة وكسر الحصار” التي انطلقت بتاريخ 30 مارس/ آذار 2018، واستمرت على مدار واحدٍ وعشرين شهراً.
ومن المقرر أن تستأنف المسيرات نهاية مارس/ آذار القادم، ولكن وفق آلية جديدة، بواقع مرة واحدة شهرياً، وفي المناسبات الوطنية البارزة”، بعد أن كانت تُنظم أسبوعياً.
وأثار دخول المسيرات، مرحلة جديدة، تساؤلاتٍ حول مدى فعاليتها، والإنجازات التي حققتها، والأهداف التي أخفقت في الوصول إليها.
ورأى مراقبون أن أهم إنجازات المسيرات، هو تمكنها من إجبار إسرائيل على تخفيف الحصار عن قطاع غزة، وإن كانت قد فشلت في كسره بشكل كامل.
كما أخذ بعضهم على حركة حماس، التي قادت الهيئة المُنظمة للمسيرات، “توظيفها لتحقيق أهداف سياسية خاصة بها”، بالإضافة إلى تسببها في خسائر بشرية كبيرة، موضحين أن “عوامل داخلية وخارجية حدّت من قدرتها على إحداث اختراق نوعي وتحقيق كامل أهدافها”.
وبحسب إحصاءات حقوقية، فقد قتلت إسرائيل (215) فلسطينياً خلال مشاركتهم في المسيرات، بينهم (15) شهيداً (منهم طفلان) تُواصل احتجاز جثامينهم وتمنع تسليمها لذويهم.
وقال مركز الميزان لحقوق الإنسان، في بيانٍ بتاريخ 20 ديسمبر/ كانون أول الماضي، إن من بين الشهداء (47) طفلاً، وسيدتان، و(4) مسعفين، إلى جانب صحافييْن اثنين، و(9) من ذوي الإعاقة.
وأضاف المركز أن (19173) فلسطينياً أصيبوا برصاص جيش الاحتلال الإسرائيلي خلال المسيرات، من بينهم (4987) طفلاً، و(864) سيدة.
**محطة وطنية
يقول ماهر مزهر، عضو الهيئة العليا للمسيرات، إنها مثّلت “محطة من محطات النضال الفلسطيني، شأنها كشأن الانتفاضات الشعبية التي استمرت منذ أكثر من قرن، وقدّم فيها الشعب الفلسطيني عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى.
وأضاف مزهر، (قيادي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين) في حديث خاص لوكالة الأناضول، إن الهدف الرئيس للمسيرات كان “استمرار جذوة النضال الفلسطيني وصولاً إلى تحرير الأرض، والعودة إلى الديار، وتحقيق حلم شعبنا في إقامة دولته المستقلة”.
ولفت إلى أن مسيرات العودة حققت الكثير من الإنجازات الوطنية، أبرزها: إحياء حلم العودة في نفوس الفلسطينيين في الداخل والخارج، فضلاً عن تشكيلها اللبنة الأساس في إفشال (الخطة الأمريكية المرتقبة) صفقة القرن، والمساعي الأميركية ضد القدس واللاجئين”.
واعتبر مزهر أن المسيرات “شكّت مدخلاً في اتجاه التأسيس لمرحلة جديدة من الشراكة، عبر انضواء كل ألوان الطيف الفلسطيني تحت مظلة الهيئة العليا للمسيرات، بما فيما فصائل منظمة التحرير، وحركتي حماس والجهاد الإسلامي، إلى جانب فصائل المقاومة”.
وأشار إلى أن التوصل لتشكيل غرفة العمليات المشتركة من قبل كافة الفصائل الفلسطينية، يُعد من أبرز إنجازات المسيرات، كخطوة باتجاه تأسيس “جيش وطني” يلجم سياسات الاحتلال.
**الجانب القانوني والدولي
من جهته، تطرّق المحامي صلاح عبد العاطي، رئيس اللجنة القانونية في “الهيئة العليا للمسيرات”، إلى إنجازاتها على الصعيد الدولي والقانوني.
وقال عبد العاطي، في تصريح خاص لوكالة الأناضول إن المسيرات سلّطت الضوء على “واقع الاحتلال الإسرائيلي وانتهاكاته الجسيمة لحقوق الإنسان، باستهداف المتظاهرين السلميين، وكذلك واقع قطاع غزة والحصار المفروض عليه”.
ولفت إلى مساهمة المسيرات في انتزاع جملة من القرارات الدولية في إدانة الاحتلال، عبر تشكيل لجنة تقصي حقائق من قبل مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة؛ للنظر في جرائم الاحتلال بحق المتظاهرين السلميين بغزة.
وكشف عبد العاطي أن لجنته بصدد الانتهاء من إعداد ملف متكامل بالأدلة والشواهد والقرائن لكل الانتهاكات الإسرائيلية بحق المسيرات؛ تمهيداً لتقديمه لمكتب الادعاء العام بمحكمة الجنايات الدولية، في ضوء إعلان عزمه فتح تحقيق في انتهاكات الاحتلال بحق الفلسطينيين.
وتوقع الانتهاء من إعداد الملف وتسليمه خلال أشهر قليلة.
**عوائق وتحديات
وتناول أستاذ العلوم السياسية بغزة “مخيمر أبو سعدة” أبرز العوامل التي حالت دون تحقيق مسيرات العودة كامل أهدافها، بالرغم من الإنجازات المتعددة لها: سياسياً، وعلى صعيد الساحة الداخلية الفلسطينية، والرأي العام الدولي، فضلاً عن توحيد جميع الفصائل تحت مظلتها.
واعتبر “أبو سعدة”، في تصريحات لوكالة الأناضول، أنه بالنظر إلى أبرز أهداف المسيرات هو كسر الحصار عن غزة، فمن الواضح أن الحصار لم ينكسر، إلا أنه تم إحداث “فكفكة” وتخفيف له على أكثر من صعيد.
فقد شهدت غزة، تحسناً طفيفاً على مستوى الظروف المعيشية الصعبة للسكان، بحسب “أبو سعدة”، من خلال ضخ الأموال القطرية التي تدخل شهرياً لدعم الأسر الفقيرة، وتزويد محطة الكهرباء بالوقود، بالإضافة استمرار فتح معبر رفح الذي لم يكن ليحصل لولا مسيرات العودة.
لكنه استدرك بالقول إن “توقيت المسيرات لم يُسعفنا كفلسطينيين في تحقيق اختراقات مهمة على الصعيد الإقليمي والدولي، حيث إن حجم القتل والدمار الذي حدث في كلّ من سوريا، وليبيا، واليمن، والعراق، لم يستدعِ العالم إلى الالتفات كثيراً لما يجري من انتهاكات بحق مسيرات العودة”.
كما أن “وجود دونالد ترامب كرئيس للولايات المتحدة، وانحيازه الصارخ لصالح إسرائيل عبر القرارات التي اتخذها، وعدم قدرة أي طرف على ردعه والحدّ من سياساته، قلّل أيضاً من القدرة على تحقيق الإنجاز”، يضيف “أبو سعدة”.
**معيقات داخلية
وعلى الصعيد الفلسطيني الداخلي، رأى “عبد العاطي” أن استمرار حالة الانقسام السياسي الفلسطيني أثر على أداء المسيرات، على الرغم من أن البرنامج السياسي للسلطة الفلسطينية، ورئيسها، ولحركة فتح هو المقاومة الشعبية، إلا أنها لم تُفعّل كما ينبغي في الضفة الغربية.
ويضيف إن غياب الحاضنة الشاملة لتبني المقاومة كخيار استراتيجي في مواجهة الاحتلال، أضعف تأثير المسيرات.
إلا أن “أبو سعدة” اعتبر أن حركة حماس “سعت إلى توظيف المسيرات لخدمة أجندتها السياسية، وصعّدت وخفّفت من حدتها تبعاً لإرادتها، وقد كان من المفترض ألا يحدث ذلك”.
وأشار إلى أن ذلك، بالإضافة إلى “بعض الخلافات الداخلية بين القائمين على هيئة المسيرات مؤخراً، أصاب شريحة من المواطنين بحالة الإحباط السياسي؛ لاسيما في ظل وقوع عدد كبير من الشهداء والجرحى، وهو ما انعكس على ضعف المشاركة في المسيرات في الآونة الأخيرة”.
ورأى “أبو سعدة” أن مسيرات العودة وكسر الحصار “بلغت مراحلها الأخيرة”؛ بعد أن استنفدت المطلوب منها، ووصلت إلى ذروة ما تستطيع أن تقدمه من إنجازات في هذه المرحلة.
**ماذا بعد؟
وفيما يتعلق بشكل الفعاليات المستقبلية للمسيرات، أكد “مزهر” أنه بحسب ما أُعلن عنه، فإن التحضيرات قائمة استعداداً للمرحلة المقبلة، التي من المقرر أن يكون يوم 30 مارس/ آذار المقبل موعد انطلاقها في مليونية “ذكرى يوم الأرض”، والذكرى السنوية الثانية لانطلاق مسيرات العودة.
وأكد “مزهر” أنه سيتم “إعادة تفعيل وهيكلة اللجان المنبثقة عن الهيئة العليا للمسيرات، وتطويرها، وضخ دماء جديدة لتجديد حيويتها”.
ولفت إلى أن الهيئة “تأخذ بعين الاعتبار ملف جرحى المسيرات وأهالي الشهداء، من خلال تعزيز صمودهم، وتقديم يد العون لهم وتوفير الحياة الكريمة”.
وأضاف أنه يجري العمل لتوسيع رقعة المسيرات في المرحلة المقبلة، لتشمل الضفة الغربية، ومخيمات اللجوء والشتات، لتحقيق استمرار الزخم الشعبي.
**مصير التفاهمات
ونفى مزهر أن يكون قرار دخول المسيرات مرحلة جديدة، مرتبطاً بأية تفاهمات سياسية مع إسرائيل، سواء من قريب أو من بعيد، نافياً كذلك أن الهيئة العليا للمسيرات لم تلتقِ بأي وسيط باتجاه إبرام أي تفاهم أو اتفاق.
وتابع “المهم هو استمرارية المسيرات، وليس مهماً الكيفية والشكل، فقد تكون يومية، أو أسبوعية، أو شهرية، بحسب التقديرات والظروف القائمة”.
من جهته، توقّع “أبو سعدة” أن تتوقف المسيرات بشكل كامل في حال تطور التفاهمات والتوصل إلى اتفاق تهدئة مستقبلاً، لكنه ربط ذلك بإفرازات نتائج الانتخابات الإسرائيلية (المقررة في مارس/ آذار المقبل).
وأضاف “في حال فوز حزب الليكود بزعامة بنيامين نتنياهو (رئيس الحكومة الحالي)، وتمكّنه من تشكيل حكومة، فإنه سيستمر في التفاهمات وصولاً إلى اتفاق تهدئة، أما في حال فوز حزب (أزرق أبيض) فإن الأمور ستختلف، في ظل الرؤية المختلفة لزعمائه الجنرالات وعلى رأسهم بيني غانتس”.
(الأناضول)