اندلعت ثورات الربيع العربي للتغلب علي جملة من الظروف السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، كان في مقدمتها إزاحة الاستبداد السياسي، والتأريخ لمرحلة جديدة من النهضة العربية القائمة علي جذور ما بعد الحداثة.
ولكن شباب الثورة، الذين حملوا لواءها في هذا الاتجاه خرجوا منها مثلما دخلوا إليها، وهو ما يسعي هذا الكتاب الذي بين أيدينا لبيانه، من خلال مراجعة أربع سنوات بعد الثورات، تخللها العديد من الأحداث والمآسي، والتي امتدت من الولادة اللاعنفية للثورة، مرورا بالصراع بين المؤسسة العسكرية وحكم الإسلاميين، وانتهاء بعودة الدولة والموجة الثانية من الثورات العربية، وبروز تنظيم “داعش”.
مآلات الثورات العربية ومساراتها:
يري المؤلف أنه إذا كان عام 2011 هو عام الثورات العربية، فإن عام 2012 كان اختبارها الصعب الذي تعثرت فيه مساراتها، واتجهت بقوة نحو العسكرة وسيطرة الإسلاميين والجهاديين، وكان عام 2013 هو إعلان نتائج موجتها الثانية. ومن هنا، سعي الكاتب إلي بيان عوامل تعثرها، مثل نهاية الإجماع الثوري، والاستقطاب الحاد، وعودة الاحتقان الطائفي، وتشتت وتبخر القوي الثورية الشبابية، ونزوح الإسلاميين إلي اتباع استراتيجية ملء الفراغ، إلي جانب الانفلات الأمني، واتساع نطاق الصراع بين القوي السياسية المختلفة، واتساع دوائر العنف والمراوغة، وأزمة الحوار الوطني.
ونتيجة لعوامل التعثر هذه وغيرها، جاءت الموجة الثانية للثورات العربية، والتي شكلت ثورة الثلاثين من يونيو باكورتها الأولي، واستلهمتها تونس التي شهدت في يونيو ويوليو 2013 مظاهرات تنادي بإنهاء حكم الإسلاميين. وقد أرجع السبب في ذلك إلي ما شهده حكم “الإخوان المسلمين” من أزمات عدة هددت المجتمع، سواء في مصر، أو تونس، حيث ارتبط الدعوي بالسياسي، بل وطغي عليه، وقد ظهر هذا جليا في المعارك مع القضاء والإعلام.
ولذلك، يري المؤلف أن 30 يونيو قامت علي خطايا جماعة “الإخوان المسلمين”. فبالإضافة إلي أداء الرئيس السابق، محمد مرسي، الذي أفقد منصب الرئاسة رونقه، كان هناك العديد من الخطايا التي ارتكبتها الجماعة، مثل اتباع سياسة التمييز الديني علي المستوي السياسي، مع السعي نحو أخونة مؤسسات الدولة، وإتباع نهج المراوغة، والقيام بمحاصرة المحاكم للمرة الأولي في التاريخ، والحرب علي الإعلام. هذه العوامل مجتمعة أدت إلي نفور المجتمع، وتخبط السياسة الداخلية والخارجية.
وقد انعكس هذا الوضع علي اتخاذ مجموعة من القرارات الاستفزازية، مثل عزل النائب العام، وإعلان حالة الطوارئ في مدن القناة، وتحصين قرارات رئيس الجمهورية. وقد أدي هذا التخبط الواضح إلي تدخل القوات المسلحة المصرية، عبر إعلان 3 يوليو، لإنهاء حكم جماعة “الإخوان المسلمين”.
خطاب “الإسلام السياسي” المراوغ:
يوضح الكاتب أن واحدة من أكبر المشاكل في الفكر الإخواني هي الفقر المرجعي، فقر الأفكار والتكوين العلمي والشرعي للقادة والمؤسسين، حيث تجمدت الجماعة عند خطاب مؤسسها، حسن البنا، بعد رحيله بستين عاما، ولم يحدث إلا انتقال جزئي مع راديكالية سيد قطب، والذي زاد كلمات البنا ومقولاته تشددا. وقد انعكس ذلك الخلل علي مستوي الخلط المستمر بين الديني والسياسي في جماعة الإخوان المسلمين، التي تعتمد أحيانا علي الرافد الديني، وأحيانا أخري علي البراجماتية المتخلية كلية عن المثالية والأخلاقية، فيكون السياسي دينيا، والديني سياسيا دون أدني مرجعية معيارية أو أخلاقية حاكمة لممارسات تلك الجماعة.
هذه السطحية قادت الجماعة إلي مجموعة من الانشقاقات التي تكمن أهميتها في كونها فكا لقداسة الفكرة الأيديولوجية للإخوان المسلمين. وقد أورد المؤلف عددا من الأمثلة علي الشخصيات المنشقة عن الجماعة داخل مصر وخارجها، منهم الشيخ طنطاوي جوهري، والشيخ محمد الغزالي، والشيخ السيد سابق.
زمن “داعش” ومعاداة التاريخ:
يشير المؤلف إلي واحدة من أكبر المشكلات التي أضحت تؤرق العالم العربي، وهي تنظيم “داعش” الإرهابي، والذي يعيش حالة من الغيبة المكانية والزمانية بدعوي إحياء الخلافة الإسلامية. فهناك غيبة زمانية تتعلق بتعاطيه مع الواقع المتغير بصور ومفاهيم تاريخية يخلط فيها ما بين الدولة والإمامة، وبين الجماعة والمجتمع من جهة، وبين الحزب السياسي والجماعة وبين المجتمع من جهة أخري. وهناك غيبة مكانية من خلال التحرك خارج مفهوم الوطن، حيث ينطلق من مفهوم الأمة، لا من مفهوم الوطن، ويري العالم صراعا بين فسطاطين، إيمان وكفر.
ويشير الكاتب إلي أن التنظيم مر بمحطات أساسية منذ إعلان دولة العراق الإسلامية سنة 2005 -2006، والتي اتخذت من الأنبار عاصمة لها، ثم التوسع من خلال تداعيات الأزمة السورية، والتي مثلت فرصة لصعود تنظيم “داعش”، وانتهاء بفشل سياسات المالكي في العراق، واستعادة “داعش” نفوذه في بعض المناطق السنية.
وقد عايش التنظيم في هذه المحطات مجموعة من اللحظات الفارقة، مثل الانفصال بينه وبين “القاعدة”، بعد الخلاف علي البيعة والتبعية عام 2013، وكذلك الظهور الأول للخليفة الداعشي، أبي بكر البغدادي، يوم الجمعة 4 يوليو 2014، في جامع الموصل الكبير.
ويرتبط ذلك بظهور موجة إرهابية أكثر تطرفا من ذي قبل، يتمدد خطرها عبر الحدود فيما بين الدول، مع استقطاب وإذكاء روح الفوضي، في ظل صعود بعض مظاهر العنف الأصولي، والجهوي، والطائفي في عدد من بلدان الربيع العربي. ومن أمثلة ذلك ما يحدث في اليمن من وجود صحوة واضحة لتنظيم “القاعدة”، مع صعود الحوثيين الذين خرقوا التوافق الوطني، من خلال احتلالهم صنعاء بدعم إيراني مكشوف، مما أعاد “القاعدة” مرة أخري إلي المشهد اليمني، بعد أن تراجع نشاطها في عام 2013 بفعل الضربات المتلاحقة التي تعرضت لها.
فخلال الشهور الأولي من عام 2014، نجحت القاعدة في تنفيذ ما لا يقل عن 30 عملية في اليمن ضد قوات الجيش والأمن. وكذلك ما يحدث في العراق من طائفية رسمية ممنهجة أدت إلي صحوة التنظيمات المتطرفة في العراق، وازدياد عملياتها بنسبة 143 ٪ عن عام 2012، والنموذج الليبي الغارق في حروب الميليشيات المسلحة، واستهداف الدولة في مصر.
كل هذه الظواهر التي تتخذ من العنف وسيلة أساسية أدت إلي استفاقة عالمية جديدة للحرب علي الإرهاب، دفعت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها إلي تكوين تحالف لمواجهة تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق وسوريا”. وصاحب هذا التمدد الكبير للإرهاب بداية ظهور ملامح حركة عربية نشطة، عبر التعاون بين الدول المتقاربة في مواقفها، خاصة مصر، والسعودية، والإمارات.
هاني نسيرة
عرض :إبراهيم سيف منشاوي – مدرس العلوم السياسية المساعد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة
مجلة السياسة الدولية