بدأت المشكلة بالنسبة إلى جان دوندار، كما حدث مع الكثيرين في تركيا، بمظاهرات منتصف عام 2013 التي سعت في البداية إلى وقف هدم حديقة غيزي في إسطنبول، لكنها تحولت إلى حركة ضد زعيم البلاد، رجب طيب أردوغان.
وقال رئيس التحرير السابق لصحيفة جمهورييت، الذي يعيش الآن في المنفى في ألمانيا، لموقع “أحوال تركية” في بث صوتي “بودكاست”، “أعتقد أن مظاهرات حديقة غيزي كانت بمثابة نقطة تحول بالنسبة إلى تركيا، وليس فقط بالنسبة إليّ”.
وقال دوندار (البالغ من العمر 58 عاما) والذي كان يعمل كاتب عمود في جريدة ميلليت في ذلك الوقت “منذ ذلك الحين، أدرك أردوغان التهديدات ضده وحاول سحق كل المعارضة، وكنت أحدهم … كنت أشارك في احتجاجات غيزي، كنت هناك كصحافي، كمواطن، وكأب. كتبت في عمودي ما شاهدته، لكنه لم يعجبهم”.
وسمحت جريدة ميلليت، التي اشترتها ديميرورين القابضة في عام 2011 وهي شركة قريبة من أردوغان وحزب العدالة والتنمية الحاكم الذي يتزعمه، لدوندار بالرحيل. فانتقل إلى صحيفة جمهورييت، حيث سرعان ما واجه اتهامات حكومية بسبب كتابته عن فضيحة فساد كبرى شملت عائلة أردوغان وأجبرت وزيرين على الاستقالة.
وقد تم تعيينه رئيس تحرير في أوائل عام 2015 وعثر على قصة أكبر، بأن تم تصوير شاحنات من وكالة الاستخبارات الوطنية التركية في تسجيل مصوّر وهي تنقل الأسلحة عبر الحدود إلى سوريا وربما إلى تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”. ويقول مسؤولون أتراك إن الشاحنات كانت تسلّم أسلحة للمقاتلين التركمان. وعلى أمل تجنب الاضطهاد الحكومي، قرر فريق التحرير في صحيفة جمهورييت وضع جميع أسمائهم على المقال.
تم اعتقاله مع رئيس مكتب أنقرة إردم غول بتهمة التجسس والانتماء لجماعة إرهابية وقضى 92 يوما في السجن. وفي مايو 2016، حُكم على دوندار بالسجن لمدة ست سنوات تقريبا بسبب كشفه عن أسرار الدولة، وفي حين كان يغادر قاعة محكمة كاجلايان في إسطنبول مع زوجته، ديليك، خرج رجل من الحشد، فيقول عن ذلك “أتذكر أن شخصاً ما كان يقترب… لم أر المسدس في البداية. لكنني سمعت صوته، وصفني بالخائن. ثم أطلق النار مرتين. أتذكر رائحة ذلك. ثم قال صديق لي، وهو صحافي آخر أصيب، أركض! فأنت الهدف”.
بدأت زوجته في صد المسلح ثم قامت الشرطة وعضو البرلمان المعارض محرم إركيك، بالسيطرة على المهاجم قبل أن يتمكن من التسبب في أيّ إصابة خطيرة.
استأنف دوندار قرار المحكمة وذهب إلى إسبانيا لكتابة كتاب. وفي حين كان هناك، واجهت حكومة أردوغان محاولة انقلاب قُتل فيها 2500 شخص. أراد دوندار العودة إلى تركيا على الفور، لكنه تحدث إلى محامييه الذين أخبروه أنهم على الأرجح لن يتمكنوا من حمايته من الناحية القانونية أو الجسدية.
فرضت الحكومة على تركيا حالة الطوارئ وبدأت سلسلة من عمليات التطهير وطردت عشرات الآلاف من الموظفين العموميين وتعقبت عدداً لا يحصى من الأتباع المزعومين لفتح الله غولن، الداعية التركي المقيم في الولايات المتحدة والذي تتهمه تركيا بالوقوف وراء محاولة الانقلاب. وفي الوقت نفسه، سمحت السلطات بإطلاق سراح بعض المجرمين. وقال دوندار “لم يعد بإمكاني العودة والذهاب إلى السجن، لكنني في هذا الوقت لم أكن متأكداً من أن السجون ستكون آمنة بالنسبة إليّ بعد إطلاق سراح المهاجم… تخيل، لقد حاول أن يقتل صحافياً على الملأ ومكث في السجن ما يقرب من أسبوعين”.
وانتقل دوندار إلى برلين وسرعان ما علم أن الحكومة التركية قد أخذت جواز سفر زوجته. وقال “حاولنا بكل وسيلة استعادة جواز سفرها بالطرق القانونية وبالطرق السياسية وعبر القنوات الدبلوماسية.. لم يفلح الأمر. قررت حكومة أردوغان الاحتفاظ بها لمجرد معاقبتي. لقد كانت رهينة”.
بعد ثلاث سنوات، تخرج ابنها من الجامعة في لندن، اتبعت ديليك تيركر دوندار طريق لاجئين لا حصر لهم قاموا برحلة غير شرعية من تركيا إلى أوروبا. وتمّ لمّ شمل الزوجين في اليونان وعادا إلى ألمانيا سوياً.
تلقى دوندار تهديدات بالقتل ووضعته السلطات الألمانية تحت حماية بعد تلقيها معلومات عن تهديد خطير. وهو يرى هذا فيما ينفذ أردوغان التهديد الذي وجهه بعد نشر القصة حول دخول شاحنات وكالة الاستخبارات الوطنية التركية إلى سوريا.
وقال دوندار “إنه يحاول معاقبة خصومه أينما كانوا… إذا كنت في السجن أو داخل البلاد أو خارج البلاد، لا يهمّ. إذا كنت تتحدى مثل هذا القائد ومثل هذا النظام، فإنهم يريدونك أن تشعر دائماً بالخطر”.
هذا لم يمنع دوندار من العمل. فهو رئيس تحرير محطة أوزغوروز الإذاعية على شبكة الإنترنت ويكتب عموداً أسبوعياً لصحيفة ألمانية، في حين يواصل إضافته إلى ما يربو على 40 كتاباً كتبها. وقد فاز بسلسلة من الجوائز الكبرى، بما في ذلك جائزة حرية الصحافة الدولية التي تمنحها لجنة حماية الصحافيين، وجائزة الحرية ومستقبل وسائل الإعلام من مؤسسة لايبزيغ الإعلامية، وجائزة صحافي العام في أوروبا.
لكن في تركيا، يتم التعامل مع دوندار على أنه عدوّ للدولة ويواجه قضايا في المحكمة مرتبطة باحتجاجات حديقة غيزي، وفضيحة الفساد ومنفذ إعلامي مغلق.
وقال “إذا وُصفت بعدوّ للدولة فمن السهل عليهم إلقاء كل اللوم عليك”، مضيفاً أنه وجد طريقة جيدة للتعامل مع الهجمات شبه اليومية ضده في وسائل الإعلام التركية الموالية للحكومة. وأردف قائلاً “في مرحلة ما، قررت تجاهلها. وهذا عقاب لهم… لقد فقدوا قوّتهم”.
وتابع قائلاً “في الحرب، إذا كنت مصاباً، فلن تشعر بالألم ولكن بعد ذلك تبدأ بالنزف وتدرك أن هناك جروحاً. إن الأمر كذلك، ففي المعركة لم ندرك مدى صعوبة كل ما مررنا به. ولكن على المسرح لمدة ساعة ونصف شاهدنا كل هذه السنوات المضطربة، كان الأمر صعباً، وأدركنا أنه كان كثيراً جداً على زوجين وعائلة”.
في السنوات القليلة الماضية، واجه الآلاف من العائلات التركية الأخرى عقبات مماثلة وأسوأ من ذلك. وقال دوندار إنه وزوجته يشعران بالرضا لأن بإمكانهما على الأقل مواجهة المنفى سوياً. عندما يفكران في تركيا، لا يشعران بافتقاد أيّ مطعم أو منظر لإسطنبول أو أكلة معينة، بل الإحساس بما فقدته بلادهم. وقال “نحن نفتقد تركيا تضحك… إنه بلد حزين الآن، يعاني الكثير. لسوء الحظ، لم يعد بلدي سعيداً بعد الآن. افتقد ضحكته. أكره أن أرى بلدي يعاني”.
العرب