باريس وطهران.. الصداقة المستحيلة

باريس وطهران.. الصداقة المستحيلة

Iran's President Hassan Rouhani (L) shakes hands with his French counterpart Francois Hollande on the sidelines of the U.N. General Assembly in New York September 23, 2014. REUTERS/Alain Jocard/Pool (UNITED STATES - Tags: POLITICS ENVIRONMENT) - RTR47EN6

لم يستسغ الحرس الثوري، الباسدران، زيارة لوران فابيوس يوم الأربعاء إلى  طهران، وكان ذلك من خلال موقف الممثل السابق للمرشد الأعلى والقريب من الحرس الثوري، مجتبى ذو النور. وبما أنه يصعب على الراديكاليين والمحافظين المهاجمة المباشرة لاتفاق الملف النووي بعد مصادقة المرشد الأعلى الإيراني، فقد تمت مهاجمة رئيس الدبلوماسية الفرنسية من خلال ملف الدم الملوث، ففي ثمانينيات القرن العشرين، عندما كان فابيوس الوزير الأول، تم تصدير دفعات من الدم الملوث إلى إيران، مما أسفر عن مقتل 125 شخصًا (بحسب الإحصائيات الإيرانية).

وتمت تبرئة الوزير الأول من قبل المحاكم الفرنسية ولكن الشعب الإيراني لم ينسى هذه الحادثة، وهو ما سمح للمعادين لاتفاق الملف النووي من مهاجمة فرنسا، التي يعتبرها الإيرانيون الحلقة الأضعف في مجموعة “5 + 1″ (الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن وألمانيا). وجاء على لسان مجتبى ذو النور: “لوران فابيوس جاء لبلدنا كعدو تزامنًا مع أسبوع تقديم الدعم لمرضى الهيموفيليا في إيران، وهذا يذكرنا بأبناء شعبنا الذين لقوا حتفهم بسبب استيراد الدم الملوث الذي كان فابيوس هو المسؤول عنه في المقام الأول“، هذا التصريح الذي نقلته وكالة فارس للأنباء القريبة جدًا من الحرس الثوري. كما تم نشر صورة للوزير الفرنسي، على موقع نوين الأهواز المحافظ ، وهو ملطخ بالدماء، مع نجمة داود نقش عليها بالإنجليزية “مطلوب”.

فرنسا،” الشيطان الأصغر

كما تعرض فابيوس للانتقاد بسبب موقفه المتشدد خلال المفاوضات. وتصر الدوائر الإيرانية المتشددة على أن فابيوس كان يدافع على المصالح الإسرائيلية ومصالح المملكة العربية السعودية. ولكن ليست كل الدوائر المحافظة تشارك في الحملة المعادية لفرنسا. ففي البرلمان، حيث يمثل الإصلاحيون الأقلية، طلب فقط 10 نواب من البرلمان الإيراني -من أصل 290- من وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف عدم استقبال فابيوس في طهران، بحسب وكالة الأنباء شبه الرسمية إسنا.

في المقابل، رحبت الحكومة الإيرانية، التي يديرها الإصلاحيون والمحافظون البراغماتيون، على غرار الرئيس حسن روحاني، بهذه الزيارة. فقد أعلن سيد حسن هاشمي، وزير الصحة: “فابيوس هو شخصية دولية، وليس من مصلحة البلاد إثارة هذه المسألة (الدم الملوث)“، مذكرًا بأنه لا يزال بين إيران وفرنسا “نزاع قانوني” لحل هذه القضية. وفي المقابل لم يكن موقف وزراء آخرين كموقف وزير الصحة، فمثلا وزير الصناعة، محمد رضا نعمت زاده، وفي تعليقه حول التعاون مع شركات صناعة السيارات الفرنسية، كان موقفه بأنه على هذه الشركات أن “تدفع ثمن عدم التزامها بالعقود الماضية، ونحن لسنا على استعداد لمنحها الضوء الأخضر بسهولة لاستئناف أنشطتها“.

وهكذا سيكون على فابيوس أن يلمّع صورة  فرنسا لدى الإيرانيين بعد الصرامة التي أبداها الفرنسيون خلال الأزمة النووية. وليظهر أن زيارته هي سياسية بحتة، لم يقم فابيوس باصطحاب رجال الأعمال والصناعيين. وليست هذه هي المرة الأولى التي تأتي فيها زيارة وزير فرنسي وسط توترات سياسية. فقد كان هذا هو الحال في عام 1998 عند زيارة وزير الخارجية الفرنسي الأسبق هوبير فيدرين. وكانت الزيارة في ذلك الوقت تهدف لاستئناف الحوار وإرجاع الدفء للعلاقات الفرنسية-الإيرانية، التي وصلت حالة التجمد.

وما هو ثابت في العلاقات الفرنسية-الإيرانية هو أن كل عودة لعلاقات طبيعية يتبعها البرود وحتى تجلد في العلاقات. فبعد الانتصار في عام 1979 للثورة الإسلامية، كانت علاقات فرنسا مع النظام الجديد في أعلى مستوياتها. فقبل عام، سمح للإمام الخميني بأن يستقر في نوفل لوشاتو (إيفلين) في فرنسا دون الحاجة لطلب اللجوء السياسي، ومن هناك كان يقوم بالتنسيق مع الناشطين السياسيين الإيرانيين حتى تحقيق الثورة. وبعد فوز الخميني، أخذت العديد من الشوارع في إيران اسم نوفل لوشاتو. لكن شهر العسل لم يدم، فمع اندلاع الحرب بين إيران والعراق، وقفت باريس إلى جانب صدام حسين، لتقدم المساعدة العسكرية للعراق: 90 طائرة مقاتلة و 150 طائرة هليكوبتر و 560 مركبة مدرعة، 81 من البنادق ذاتية الدفع وأكثر من 15 ألف صاروخ، ولتجني الصناعية الفرنسية أكثر من 20 مليار دولار. وكان في ذلك الوقت يقود العراقيون طائرات ميراج الفرنسية التي تدربوا عليها في فرنسا والتي كانت ترهب الإيرانيين-ولن ينسى الإيرانيون هذه الحقبة أبدا-.

يضاف إلى هذه العلاقة المتوترة التقاضي حول شركة يوروديفن فقد كان الشاه قد منح قرضًا بقيمة مليار دولار إلى فرنسا لبناء محطة لتخصيب اليورانيوم. ويرتبط هذا القرض بشراء إيران لمحطة نووية من فرنسا. وكان الخميني قد ندد بهذا التعاون النووي مع وقف عمليات الدفع ومع مطالبته بسداد القرض، وهو ما رفضته باريس. لتصبح فرنسا سريعًا، بحسب كلمات الخميني، “الشيطان الأصغر”. كما اختارت إيران مواجهة فرنسا في لبنان، من خلال حزب الله، مع عملية اختطاف 13 صحفيًا ودبلوماسيًا، وفي باريس، حدثت ثلاث موجات من الهجمات أدت إلى عشرات القتلى وأكثر من 400 جريح.

“حرب السفارات

في هذا السياق تأتي قضية وحيد قورجي في عام 1987، فقد كانت لدى المديرية العامة للمراقبة الإقليمية قناعة بأن مترجم السفارة الإيرانية في باريس كان هو من نسق تفجيرات 1986. ليلجأ وحيد قورجي في السفارة الإيرانية، ما جعل الحكومة الفرنسية تقرر محاصرة السفارة الإيرانية في باريس. وكانت إجابة إيران من خلال محاصرة سفارة فرنسا ومهاجمة ناقلة نفط فرنسية في الخليج العربي. وفي 17 يوليو 1987، قطعت باريس علاقاتها الدبلوماسية مع طهران وأرسلت فريق عسكري إلى منطقة الخليج. واستمرت “حرب السفارات” أربعة أشهر، إلى حين التوصل إلى اتفاق.

وفي مايو 1991، وصل وزير الخارجية السابق رولان دوما إلى طهران. وكانت باريس تتوقع الكثير من الرئيس الإيراني الجديد هاشمي رفسنجاني. وقال رولان دوما لإرضاء مضيفيه: “ميدان تيانانمين ليس في طهران“. والهدف من هذه الزيارة كان إعداد زيارة دولة للرئيس الفرنسي ميتران. ولكن العلاقة تدهورت من جديد يوم 6 أغسطس 1991 عندما قتل رئيس الوزراء السابق شابور بختيار وسكرتيره، في المنفى في سوران (هوت دو سين) في فرنسا.

لتكون هناك فترات أخرى من رجوع العلاقات إلى طبيعتها، والأكثر تميزًا هي الزيارة “التاريخية” إلى باريس من الرئيس خاتمي، يوم 27 أكتوبر 1999. لتعقبها فترات برود أخرى، وخاصة بعد اكتشاف مواقع نووية سرية في ناتانز وآراك في أغسطس 2002، والتي ستفتح باب الأزمة النووية. وفي عام 2009، خلال الاحتجاجات التي أعقبت إعادة انتخاب محمود أحمدي نجاد، تم اعتقال الشابة الجامعية الفرنسية كلوتيلد ريس ومحاكمتها في طهران بتهمة التجسس. فهل أن استئناف الحوار بين طهران وباريس سيكون هذه المرة استثناء لهذه القاعدة؟

التقرير