حتى قبل اغتيال قاسم سليماني باستخدام طائرات أمريكية بدون طيار هذا الشهر، كان قائد «فيلق القدس» التابع لـ «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني يواجه بضعة أشهر صعبة. فلسنوات، قام بتوسيع عملياته بشكل مطرد من خلال وكلائه في لبنان وسوريا والعراق. ولكن مؤخراً، تلقت قواته الكثير من الضربات. فقد هاجم الجيش الإسرائيلي العديد من القواعد الإيرانية في سوريا والعراق (وربما لبنان)، مما أسفر عن مقتل عدد كبير من المقاتلين والقادة اللبنانيين والعراقيين وتدمير معظم مصانع الصواريخ الدقيقة التابعة لسليماني.
وعلى الرغم من الخسائر الفادحة، كان أمر واحد يصب في مصلحة سليماني، وهو: أنه لم يُرغَم أبداً على مواجهة الولايات المتحدة بشكل مباشر. وإذ كان يضع هدف ضمان بسط نفوذ إيران على المنطقة نصب عينيه، فقد قلل من شأن أي حوادث ووعد بالرد “في المكان والزمان المناسبين”، وهو شعار لطالما ردده الوكلاء والمسؤولون الإيرانيون في السنوات الأخيرة.
لكن الزمان والمكان المناسبين لم يحلا قط. فقد تمّت تصفية سليماني الذي كان العقل المدبر الرئيسي لقوة إيران في المنطقة. والآن أصبحت إيران في موقف صعب. فعدم الرد سيكون مؤشر ضعف، لكن الرد بالقوة قد يعرض النظام ووكلاءه إلى مزيد من الضربات الأمريكية. ونظراً للقيود القائمة، من المرجح أن تتفادى إيران اتخاذ أي تدابير صارمة قد تؤدي إلى اندلاع حرب. عوضاً عن ذلك، ستواصل اتباع المسار نفسه الذي رسمه سليماني: لا مواجهة مباشرة مع عدوه الرئيسي، إنما جهود حثيثة لضمان نفوذ إيران المؤسسي في المنطقة. ومن المرجح أن يحذو حذوه «حزب الله» الذي يُعتبر أحد أبرز شركائه في المنطقة، والذي وعد في الأيام الأخيرة بشنّ حملة نار وغضب.
هذا، وبدأت مؤشرات على استراتيجية إيران و«حزب الله» في الظهور بالفعل. ففي 5 كانون الثاني/يناير، أعلنت إيران أنها لن تلتزم بعد الآن بأي من قيود الاتفاق النووي الذي أبرمته في عام 2015. وبالمثل، أقرّ مجلس النواب العراقي قراراً دعا فيه إلى إنهاء وجود جميع القوات الأمريكية المتبقية في العراق. وبعد أيام، ضربت إيران قواعد أمريكية في العراق وادّعت بعد ذلك أنها لا تريد الحرب.
وفي غضون ذلك، وخلال احتفال تأبين سليماني في الضاحية الجنوبية لبيروت في 5 كانون الثاني/يناير، دعا أمين عام «حزب الله» السيد حسن نصر الله إلى رد أكثر قساوة بكثير. وقال إن على الجيش الأمريكي أن يدفع ثمن مقتل سليماني، محذراً من أن جنوده وضباطه سيعودون إلى ديارهم محمّلين بالنعوش. كما أشار إلى أن الرد على الاغتيال لن يكون مسؤولية إيران وحدها، بل كافة حلفائها أيضاً. غير أنه لفت إلى أنه لا يجب استهداف المدنيين الأمريكيين، وتابع قائلاً إن “القصاص العادل” سيستهدف “الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة: القواعد العسكرية الأمريكية، البوارج العسكرية الأمريكية وكل ضابط وجندي عسكري أمريكي في منطقتنا وفي بلادنا وعلى أراضينا”.
وجاءت تصريحاته بعد يوم من المقابلة التي أجرتها زينب سليماني، ابنة قاسم سليماني، على قناة “المنار” التلفزيونية التابعة للحزب. وأكدت أنها كلها ثقة بالسيد حسن نصرالله، مضيفةً “أنا أعلم أنه سينتقم لدماء والدي”.
ولم يكن تصريحها إشارةً فعلية إلى أن «حزب الله» سيأخذ على عاتقه إطلاق رد عسكري ضد الولايات المتحدة، بل كان رسالة ذكية وتذكير بقوة إيران في المنطقة، ومؤشراً على كيفية تمكّن سليماني بنفسه من جعل «حزب الله» أحد أكثر الحلفاء قيمة لإيران.
وفي الواقع، إذا ما تركنا الخطابات المحمومة جانباً، يدرك نصرالله أنه لا يمكنه التورط مباشرة بأي نوع من الانتقام. ومن المثير للاهتمام أنه لم يذكر لبنان في تصريحاته ولو مرة واحدة، كما لم يُلمّح إلى إسرائيل كهدف. ورغم تبجّحه، يعلم نصرالله أن الخيار الأفضل بالنسبة له ولإيران هو الحفاظ على النهج الواقعي وليس بدء حرب إقليمية.
وخلال العقد الماضي، تمثلت استراتيجية «حزب الله» في لبنان بالحفاظ على الاستقرار، ولكن من النوع الذي يحمي مصالح إيران. ولهذا السبب بالتحديد يَعتبر الحزب أن الاحتجاجات الأخيرة في لبنان تشكل تحدياً لا بدّ من إسكاته. وقد أرسل الحزب عناصره من البلطجية لمهاجمة المحتجين في الشوارع، ولا سيما في المدن والقرى الشيعية، وزاد حدة التهديدات ضد المنشقين والناشطين الشيعة. وكان سليماني قد سافر مراراً إلى بيروت للمساعدة في قمع المسيرات من خلال تقديم المشورة لمسؤولي «حزب الله» حول كيفية وتوقيت التصدي للمحتجين. وتركزت استراتيجيته على هدفين: منع الشيعة من المشاركة، والضغط على المؤسسات الأمنية لقمعهم. فقد أدرك أن أي اضطرابات قد تهدد مصالح إيران وإنجازاتها الهشة في المنطقة.
وفي الوقت الراهن، لا يزال «حزب الله» يسيطر على الدولة اللبنانية ومؤسساتها، على الرغم من الضرر الذي لحق بشعبيته. وسيغتنم الحزب الفرصة التي أتاحها مقتل سليماني من أجل استعادة بعض من شعبيته وإعادة إحياء صورته من خلال تصوير الولايات المتحدة على أنها الطرف الشرير، رغم أن هذه الاستراتيجية لم تعد بالفائدة على الحزب مؤخراً. ويبدو أن اللبنانيين أكثر تركيزاً اليوم على المشقات الاقتصادية واليومية، وليس على الخطاب الإيديولوجي. وكل هذا يعني أن أمام «حزب الله» معركة شاقة لإعادة تعزيز قوته.
وفيما يتخطى ذلك، سيواجه الحزب صعوبات في حشد [الموارد الكافية] لشنّ حملة انتقامية حتى لو أراد ذلك. فقد خسر عدداً كبيراً من قواته النخبة في سوريا وسائر أرجاء المنطقة. ويتألف قسم كبير من قوته القتالية الحالية من مجندين جدد لا يزالون بحاجة إلى التنظيم والهيكلة. وهذا الأمر يستغرق بعض الوقت، ويبدو أنه صعب أيضاً، لأن العديد من المقاتلين الجدد تم تجنيدهم على عجل خلال الأزمة السورية وتبين أن تدريبهم صعب. ويواجه الحزب ضائقة مالية أيضاً نظراً للمشاكل التي تعانيها إيران بنفسها على صعيد الموازنة، وأمامه مجال محدود لخوض أي مغامرات جديدة.
وهكذا، وبينما تحاول إيران تعزيز قوتها في العراق عبر مؤسسات الدولة والمناورات المحدودة ضد القوات الأمريكية، سيحاول «حزب الله» القيام بالمثل في لبنان. أولاً، من المرجح أن يبذل جهداً لتشكيل حكومة في لبنان تكون على ارتباط أوثق به وبحلفائه. ثانياً، سيحاول الحزب الترويج لهذه الحكومة باعتبارها الخيار الوحيد لضمان الاستقرار، آملاً في أن يفضل المجتمع الدولي الهدوء على الإصلاح، ولا سيما في وقت تعمّ فيه التوترات أرجاء المنطقة.
وفي الوقت نفسه، حتى في ظل محاولته تجنب المواجهة العسكرية، فمن المرجح أن يعمل «حزب الله» على إعادة بناء ترسانته من الصواريخ الدقيقة والاستعداد لحرب في المستقبل. وأخيراً، سيحاول تحويل الأزمة الاقتصادية اللبنانية لصالحه. على سبيل المثال، قد يزيد عمليات التهريب عبر الحدود اللبنانية-السورية لجلب المواد الغذائية والأدوية من العراق وسوريا. وهذا ما يحصل أساساً لكن على نطاق ضيّق، وهو ما سمح للحزب ببناء اقتصاد موازٍ في لبنان. وقد يبدو الانتقام الدموي مغرياً بالنسبة لمؤيدي إيران و«حزب الله»، لكن استحواذاً مطرداً لا تراق فيه الدماء في جميع أنحاء المنطقة سيؤتي ثماراً أفضل على المدى الطويل.
وعندما اغتالت “وكالة المخابرات المركزية” الأمريكية و”الموساد” القائد العسكري في «حزب الله» عماد مغنية في سوريا في شباط/فبراير 2008، جاء رد الحزب الأعنف في الداخل اللبناني، حيث استخدم سلاحه ضد اللبنانيين طوال فصل الصيف. وكانت تلك هي اللحظة التي سيطر فيها «حزب الله» على لبنان من خلال إقصاء حكومة 14 آذار/مارس المعادية له وتشكيل حكومة الوحدة الوطنية، التي وضعت لبنان منذ ذلك الحين تحت سلطة الحزب.
وبالنظر إلى الاستراتيجية المحتملة لإيران و«حزب الله»، فإن أفضل طريقة لاحتوائهما هي دعم وتمكين الشعبين اللبناني والعراقي، اللذين يشكلان الفصيل الفعلي الذي يمكنه تقديم الدعم لوكلاء إيران أو حجبه عنهم. فهذان الشعبان هما العناصر الحقيقية للتغيير في المنطقة.
حنين غدار
معهد واشنطن