بدأت انعكاسات الأزمة الاقتصادية والسياسية في لبنان المستمرة منذ أكثر من ثلاثة أشهر، واغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، تنعكس أكثر فأكثر على المقاربة الإسرائيلية من المواجهة مع حزب الله في لبنان، ومن التمركز العسكري الإيراني في سورية.
وقفت إسرائيل موقف المتفرج حيال ما يجري في الساحة الداخلية اللبنانية، ورأت أن تفاقم حركة الاحتجاج الشعبي والأزمة الاقتصادية الخانقة التي يواجهها هذا البلد شكلا عامل ضغط داخلي فعال، من شأنه أن يردع حزب الله من الدخول في مغامرة عسكرية ضد إسرائيل. ولكن المسؤولين في إسرائيل بدأوا، بعد اغتيال سليماني والفراغ الذي تركه وراءه، في مراجعة مجمل سياستهم من الموضوعين الإيراني وحزب الله، انطلاقاً من فرضية أن غياب سليماني والضائقة الاقتصادية التي تعصف بكل من لبنان والعراق وإيران، وأيضاً تعثر عملية إعادة إعمار سورية والتنافس الإيراني – الروسي على اقتسام الأرباح مقابل مساهمتهم في إعادة تثبيت نظام الأسد، ذلك كله يشكل فرصة نادرة على إسرائيل استغلالها من أجل بذل جهد أكبر لاخراج القوات العسكرية الإيرانية من سورية، وتوجيه ضربة إلى المليشيات الشيعية الدائرة في فلكها، وتقليص نفوذ حزب الله وقوته في لبنان.
برزت أصداء هذه المراجعة في التحليلات والتقديرات التي نشرها أكثر من خبير وباحث
“من وسائل الضغط على إيران، الاعتراف بالهيمنة الروسية في سورية، وإجبار الأسد على الاختيار بين روسيا أو إيران”إسرائيلي أخيرا. اقترح جزء لا يستهان من هؤلاء على إسرائيل العمل بسرعة واستغلال الفراغ الناشئ بعد مقتل سليماني، لتكثيف الهجمات الجوية ضد القوات العسكرية الإيرانية في سورية، بالتنسيق مع الولايات المتحدة الأميركية، ومن خلال توثيق التفاهم القائم مع الروس، والطلب منهم بأن يكونوا المرجع الأول في سورية وليس إيران. وبحسب الباحث في معهد دراسات الأمن القومي، أودي ديكل، من وسائل الضغط التي تساهم في إبعاد الإيرانيين، الاعتراف بالهيمنة الروسية في سورية، وإجبار الرئيس بشار الأسد على الاختيار بين الولاء لروسيا أو الولاء لإيران، وبالتالي حسم الموقف لصالح الروس. في وقتٍ تبرز فيه بوادر منافسة بين الروس والإيرانيين على بلورة مستقبل سورية السياسي، وعلى تقاسم الفوائد الاقتصادية من مشاريع إعادة إعمارها.
في رأي أكثر من خبير إسرائيلي، المنطقة أمام تطوراتٍ وتبدلات، بعد أن نجحت الولايات المتحدة في استرجاع المبادرة في المنطقة، وأثبتت تفوقها العسكري الكبير على إيران انعكس في الرد العسكري الصاروخي الإيراني المحدود على عملية اغتيال سليماني، على الرغم من التهديدات الإيرانية برد انتقامي موجع.
وذهب محللون إلى حد اعتبار اغتيال سليماني خطوة أولى ضمن استراتيجية أميركية جديدة تسعى إلى التخلص من كل من تعتبرهم الولايات المتحدة قادة لـ”الإرهاب” الشيعي، بينهم الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله. هذا ما كتبه يوني بن مناحيم في معهد القدس للشؤون
“في رأي خبراء إسرائيليين، المنطقة أمام تطوراتٍ وتبدلات، بعد أن نجحت أميركا في استرجاع المبادرة في المنطقة”العامة “اغتيال سليماني هو ضربة قاسية لإيران ووكلائها. ويمكن أن يشكّل فرصة كي ترمم إسرائيل أيضاَ قدرتها على الردع، وتصفّي حسابها مع حسن نصر الله”.
ومن الجلي أن تطورات الشهر الماضي شجعت إسرائيل على البحث في كيفية استغلال الظرف الراهن لمصلحتها. ولكن الراهن أيضا وجود قيود وعقبات كثيرة تعترض أي محاولةٍ تقوم بها لانتهاج سياسة أكثر عدائية وهجومية ضد القوات الإيرانية في المنطقة، فالترتيبات التي توصل إليها الروس مع الإسرائيليين تفرض إبلاغ الروس بصورة مسبقة بأي هجوم، ومن حق روسيا أن ترفض، وثمة إجماع على أن الروس لا يعارضون مبدئياً قصف شحنات سلاح موجهة إلى حزب الله، أو قصف قواعد استخدمتها إيران لنقل هذا السلاح. أما إذا تطورت هذه الهجمات لتصبح أكثر حدّة وموجهة بصورة مكثفة ضد القوات الإيرانية في سورية التي ما يزال النظام يعتمد عليها في القتال البري الدائر لاسترجاع سيطرته على المناطق الخاضعة لسيطرة قوات المعارضة، فإن هذا سيربك (ويعرقل) خطط الروس لإعادة الاستقرار إلى سورية، وتثبيت حكم الأسد، وسيتعارض مع مصالحهم.
يجب أن يضاف إلى ذلك محدودية النتائج التي استطاعت عقيدة “المعركة بين الحروب” التي انتهجتها إسرائيل ضد التمركز الإيراني في سورية، فالهجمات الجوية الإسرائيلية خلال السنوات الماضية لم توقف تماماً، انتقال السلاح من إيران إلى حزب الله، ولم تفكك القواعد العسكرية الإيرانية في سورية، ولم توقف تدفق المليشيات الشيعية الموالية لإيران إلى هناك، ولا أوقفت العمل على الممر البري الذي تقيمه إيران ويربطها بالعراق وسورية ولبنان.
من ناحية أخرى، لا شيء يؤكد وجود استراتيجية جديدة لإدارة ترامب في المنطقة. ومن
“الروس لا يعارضون مبدئياً قصف شحنات سلاح موجهة إلى حزب الله، أو قصف قواعد استخدمتها إيران لنقله”المحتمل جداً أن تكون عملية اغتيال قاسم سليماني خطوة أحادية لن تتكرّر، فقد أعلن ترامب أكثر من مرة أنه لا يريد حرباً واسعة النطاق مع إيران، وأن كل هدفه إقناعها بالعودة إلى طاولة المفاوضات على اتفاق نووي جديد.
في المحصلة، يتضح أن إسرائيل في حربها ضد الوجود العسكري الإيراني مكبّلة من جهة بالتنسيق العسكري المسبق مع روسيا. ومن جهة أخرى، بالرفض الأميركي المبدئي لنشوب مواجهة عسكرية واسعة ضد إيران في المنطقة، ما يعني أن سعي إسرائيل إلى تغيير معادلة المواجهة مع حزب الله وإيران لن يُكتب له النجاح. ومن الواضح أن إسرائيل تعول كثيراً على الدعم الأميركي لها في مسعاها، لكنها في الوقت عينه تدرك أكثر من غيرها أن قرار ترامب اغتيال سليماني قد يكون قراراً لمرة واحدة، وهدفه الأساسي إقناع إيران بالعودة إلى طاولة المفاوضات على اتفاق نووي جديد، وليس تنفيذ أجندة إسرائيلية بحتة.
وثمّة نقطة أخرى، هي محدودية النتائج التي استطاعت عقيدة المعركة بين الحروب التي انتهجتها إسرائيل ضد التمركز الإيراني في سورية، فالأرجح أن الهجمات الجوية الإسرائيلية خلال السنوات الماضية لم تنجح في وقف انتقال السلاح من إيران إلى سورية، وبعدها إلى حزب الله، ولا استطاعت تفكيك القواعد العسكرية الإيرانية في سورية، ولا وقف العمل على الممر البري الذي تقيمه إيران الذي يربطها بالعراق وسورية ولبنان.
رنده حيدر
العربي الجديد