شكل الاتفاق النووي الموقع بين إيران ومجموعة “5+1” اعترافا غربيا ودوليا بدور إيران المتنامي في منطقة الشرق الأوسط والمشرق العربي والإسلامي، ودعما لطهران في خططها للتوسع الإقليمي في مجالها الحيوي.
وهي الخطط التي بدأت مع صحوة “المشروع الإمبراطوري” الإيراني الفارسي مجددا، مع نجاح الثورة الإيرانية في الإطاحة بنظام آخر شاهات الأسرة البهلوية الشاه محمد رضا بهلوي، وبدئها في التخطيط للخروج بمشروع “الثورة الإسلامية” إلى آفاق أبعد من حدودها.
ويمثل الخليج العربي وإقليم آسيا الوسطى المجال الحيوي الأقرب والأهم بالنسبة لإيران، ومن وراء ذلك إقليم الهلال الخصيب وشبه الجزيرة العربية جنوبا عند اليمن.
ومنذ اندلاع ثورات الربيع العربي، شغلت العديد من الدوائر البحثية والسياسية بدراسة العوامل التي قادت إلى نجاح إيران في التوسع غربا في المجال الحيوي العربي، استغلالا لظروف بعينها لحقت بالدولة القومية في العالم العربي.
فقد استغلت إيران ما أدت إليه تفاعلات الثورات والثورات المضادة، وما ألحقته الصراعات التي اندلعت بين القوى المختلفة (القوى الثورية والأنظمة القديمة) من أضرار ببنية الدولة وتماسكها، من أجل تدعيم نفوذها والحفاظ على مصالحها.
وقد مكنت هذه الأوضاع العديد من المشروعات الأصولية ذات الطابع الأممي أو على الأقل ذات المطامع التوسعية الإقليمية، مثل مشروع تنظيم الدولة، والمشروع الإيراني، وهو وضع طبيعي أن يحدث وفق قوانين التدافع المتعارف عليها بين الأمم.
ومن أهم المجالات التي تناولتها الدراسات التي خرجت في هذا الصدد، الأدوات التي تتحرك بها إيران في هذا الإطار، والتي أثبتت فاعلية ونجاحا في مناطق عدة، بينما فشلت في مناطق أخرى.
وبين أيدينا كتاب بعنوان “المجالات الحيوية الشرق أوسطية في الإستراتيجية الإيرانية” للدكتور عمر كامل حسن، يبحث في سياسات تطبيق المجال الحيوي في منطقة الشرق الأوسط، بوصفها من أكثر المناطق الجغرافية أهمية للقوى العالمية والإقليمية، ويتخذ إيران نموذجا، باعتبارها تطبيقا إستراتيجيا لقوة إقليمية مهمة تحتل موقعا، وتتخذ سياسات خارجية هجومية تمكنها من الحفاظ على مجالها الحيوي ومصالحها فيه.
وفي الإطار، يبحث المؤلف في تطور مفهوم المجال الحيوي كنظرية سياسية لجأت إليها الدول الكبرى لتبرر -في سياق تأمين حاجاتها ومصالحها- توسعها على حساب الدول الأخرى، دون التوقف عند حاجات ومصالح شعوب هذه الدول إلا بما يتناسب مع مصالحها هذه القوى.
كما يتناول الكتاب المجالات الحيوية الشرق أوسطية في الإستراتيجية الإيرانية، والصراع الجيوسياسي الإقليمي والدولي في منطقة الشرق الأوسط بين إيران من جهة، والولايات المتحدة وإسرائيل وتركيا والمملكة العربية السعودية وغيرها من الدول التي تسعى جاهدة للحفاظ على مصالحها ونفوذها في الإقليم من جهة أخرى.
“الكتاب يبحث في سياسات تطبيق المجال الحيوي بمنطقة الشرق الأوسط، ويتخذ إيران نموذجا باعتبارها تطبيقا إستراتيجيا لقوة إقليمية مهمة تحتل موقعا، وتتخذ سياسات خارجية هجومية تمكنها من الحفاظ على مجالها الحيوي ومصالحها فيه”
ويعرّف المؤلف المجال الحيوي في النظرية السياسية على أنه المساحة التي تحتاج إليها الدولة، وتتمدد فيها إلى خارج حدودها، كلما نمت أكثر.
وأهم النماذج التاريخية في هذا الإطار نموذج ألمانيا النازية التي أدت سياساتها لتأمين نموها الاقتصادي، إلى التوسع في أراضي الدول المجاورة لها من أجل تأمين المواد الأولية اللازمة لاقتصادها لبناء الأمة الألمانية. وكانت تشيكوسلوفاكيا أهم هذه المناطق التي توسعت فيها ألمانيا النازية، لما كان فيها من مصادر طاقة، بجانب وجود أقليات جرمانية كبيرة.
ولكن لا يشترط أن يكون التوسع في المجال الحيوي لبواعث اقتصادية وسياسية فحسب، فقد تملك الدولة مشروعا إمبراطوريا، وقد تكون لها أطماع في مناطق بها أقليات دينية أو طائفية أو عرقية تنتمي إليها، كما هو الحال في المناطق التي توسعت فيها ألمانيا في القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين، أو كما هو الحال في سلوك إيران في مناطق الأقليات الشيعية في الخليج العربي والهلال الخصيب.
ويقود هذا النمط من التفكير والسلوك الخارجي للدول في المناطق التي تعتبرها مجالا حيويا لها، إلى وقوع صدامات تصل إلى مستوى الحروب الإقليمية والدولية، على النحو الذي تم في الحروب النابليونية في القرن التاسع عشر، وفي حالة الحربين العالميتين الأولى والثانية، وكذلك الحروب الأميركية السرية والعلنية في أميركا اللاتينية والشرق الأوسط، ومناطق أخرى من العالم.
وهو أمر متحقق في الحالة التي اختارها المؤلف، حالة التجربة الإيرانية في مرحلة ما بعد ثورة الخميني، حيث إن الكثير من الأزمات الساخنة الحالية في الإقليم مردها إلى التدخلات الإيرانية، إما في طبيعة هذه التدخلات ذاتها كما في حالة الأزمة السورية، وفي أزمة الحوثيين باليمن، أو بسبب ردة فعل الأطراف الإقليمية والدولية الأخرى التي تعارض التدخلات الإيرانية.
وهو أمر قائم في حالة التدخل الإيراني في كل من العراق وسوريا، فإيران تنتهج أكثر من أداة في تدخلها في البلدين، ومن بينها الأداة العسكرية، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. في المقابل، فإن القوى الإقليمية والدولية مثل المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة، وفي سبيل التصدي للتوسع الإيراني في الإقليم، تلجأ إلى خوض حروب مباشرة أو بالوكالة.
ولا تقف طهران عند حدود تبني الأداة العسكرية، فهي في إستراتيجيات حركتها في المجال الحيوي الخاص بها، تتبنى أكثر من أداة، مثل الاستعانة بحلفاء رسميين وغير رسميين، أو من خلال الأقليات الشيعية الموجودة في الدول التي تنتمي إلى هذا المجال الحيوي، كما في البحرين والسعودية واليمن.
الكتاب حفل بالكثير من الأمور التي يجب دراستها فيما يخص واقعنا العربي الراهن، أولها: كيف نجحت إيران من خلال لعبة المصالح الإقليمية في ضمان تحقيق مصالحها، وإجبار الغرب على الاستجابة لهذه المصالح؟ وكيف استطاعت طهران في هذا الإطار، توظيف تحالفاتها الدولية مع روسيا والصين وأطراف أخرى، في امتصاص الضغوط والعقوبات الأميركية والغربية عليها.
الأمر الثاني وهو الأهم: كيف تمس السياسات الإيرانية مصالح الأمن القومي العربي على النحو الذي نراه في الوقت الراهن في أزمات العراق وسوريا واليمن، والتهديدات الإيرانية المستمرة لدول الخليج العربية من خلال الأقليات الشيعية الموجودة فيها، على النحو الحاصل حاليا في البحرين؟
“الدراسة خلصت إلى أن إيران أحد أهم أركان خريطة القوى الشرق أوسطية، وأنها حققت نجاحات كبيرة في التمدد والتوسع في الإقليم، من خلال منظومة من الإستراتيجيات المتعددة الاتجاهات التي تبنتها الدولة الإيرانية”
وفي مقابل نجاح إيران في فرض كلمتها ومصالحها على القوى العظمى في عالم اليوم على أرض الشرق الأوسط، لم تجد هذه القوى أي جاذبية في الالتزام بمصالح النظام الإقليمي العربي، بل كانت هذه المصالح مجالا للمساومة في إطار الحرب الباردة بين الغرب وإيران، في ظل ضعف الموقف العربي.
ومن المفترض أن تقود هذه الأوضاع وما تشتمل عليه من تهديدات، النظام الإقليمي العربي إلى البحث عن حلول فعالة لمواجهة مثل هذه الأخطار التي تمس الأمن القومي سواء على المستوى القطْري للدول العربية، أو على المستوى الإقليمي بشكل عام.
وفي الأخير، خلصت الدراسة إلى أن إيران هي أحد أهم أركان خريطة القوى الشرق أوسطية، وأنها حققت نجاحات كبيرة في التمدد والتوسع في الإقليم من خلال منظومة من الإستراتيجيات المتعددة الاتجاهات التي تبنتها الدولة الإيرانية.
ومن أهم مظاهر هذا النجاح، تأثير إيران على الإستراتيجيات الأميركية والغربية في منطقة الشرق الأوسط، من خلال تهديد مصالحها في المنطقة وعلى رأسها النفط والأمن، أو من خلال مساومة أميركا والغرب على هذه المصالح، في مقابل الاعتراف بنفوذ إيران كقوة إقليمية، وذلك على النحو الذي تم في ملفيْ أفغانستان والعراق.
غير أن الكاتب يقول إن هناك عددا من المعوقات التي تواجه إيران في تحركاتها الإقليمية هذه، وعلى رأسها مصالح الدول الغربية التي تتعارض في كثير من الأحيان مع المصالح الإيرانية، وبالتالي تتضاد وتتعارض الإستراتيجيات التي تتبناها هذه الدول -وخصوصا الولايات المتحدة- مع الإستراتيجيات التي تتبناها إيران.
وهذا في حد ذاته، يجعل المنطقة من أهم مناطق العالم التي تمتاز بالقلق على مختلف المستويات السياسية والأمنية، وبالتالي فإن مستقبلها ينذر بمفاجآت وتغيرات لا يمكن التحكم فيها.
عرض/ أحمد محمود
المصدر: الجزيرة