يعتبر مضيق باب المندب الواقع بين البحر الأحمر والمحيط الهندي رابع أهمّ نقطة عبور بحرية فيما يتعلّق بنقل البترول. ومن خلال ربطه بين شبه الجزيرة العربية وإفريقيا، يعود الوزن الاستراتيجي لباب المندب إلى قناة السويس الّتي تربط البحر الأبيض المتوسّط بالبحر الأحمر؛ ممّا يسمح بتزويد الدول الغربية بالطاقة. ولكن المضيق الّذي يعدّ عصب التجارة العالمية يقع في منطقة غير مستقرّة؛ حيث ترتفع اضطرابات التهريب البحري بسبب القرصنة والإرهاب والصراع الدائر في اليمن.
تفسّر تسمية مضيق باب المندب بالمخاطر الّتي تفرضها التيّارات القويّة على البحّارة. وباب المندب، الّذي لا يتجاوز عرضه بالكاد 32 كيلومترًا، مقسّمٌ إلى محوري عبور من خلال الجزيرة البركانية بريم الخاضعة لسيطرة اليمن: المحور الأول يقع بين السواحل اليمنية والجزيرة ولا يتجاوز عرضه 3 أمتار، في حين يمتدّ الآخر على عرض 26 كيلومترًا ليصل إلى جيبوتي. والممرّ الأوّل ضيّق للغاية، وغير عميق بما يكفي لاستقبال السفن الكبيرة؛ وبالتالي يتمّ الإبحار أساسًا عبر المحور الثاني.
لئن يرتبط باب المندب مباشرة باليمن وجيبوتي؛ فإنّ منافذه تهمّ جميع الدول المطلّة على الواجهة البحرية للبحر الأحمر (إريتريا والسودان ومصر و”إسرائيل” والأردن والمملكة العربية السعودية) الّتي عليها عبوره من أجل الوصول إلى خليج عدن والمحيط الهندي، كما أنّ زيادة أعمال القرصنة على سواحل القرن الإفريقي وعدم الاستقرار السياسي المزمن في الصومال جعلا من هذا البلد الواقع عند مدخل المضيق لاعبًا إقليميًا مهمًّا.
تاريخ موجز لباب المندب حتّى السنوات الـ 2000
من العصور القديمة إلى القرن الخامس عشر، لم تخصّ تحديّات المضيق إلا عددًا قليلًا جدًّا من الدول الغربية؛ إذ إنّ المضيق -نقطة العبور البحري الوحيدة نحو المحيط الهندي- يستخدم من قبل دول الخليج والشمال الشرقي لإفريقيا من أجل التجارة مع بلاد فارس وعمان والهند ومدغشقر.
شهدت بداية عصر النهضة بداية تدويل المنطقة؛ ففي السنوات الـ1410-1420، قام المستكشف الصيني تشنغ هي بعدّة حملات استكشافية في المنطقة راسيًا في عدن (في اليمن) وفي الصومال وحتّى في مكّة، عابرًا بذلك مضيق باب المندب. وفي الوقت نفسه، مع إغلاق الوصول إلى آسيا أمام الغرب من قبل الإمبراطورية العثمانية؛ أطلق الأمير البرتغالي هنري الملاّح بداية من عام 1415 بعثاته نحو الجنوب من أجل إيجاد طريق أخرى نحو الهند وثرواتها، وهكذا اندفع البحارة البرتغاليون طوال القرن الخامس عشر نحو الساحل الغربي لإفريقيا واستقروا في عدّة أماكن (غينيا والرأس الأخضر).
بعد الوصول إلى رأس الرجاء الصالح في عام 1488، واصلوا طريقهم نحو الشرق راسين بعد 10 سنوات على كاليكوت في الهند. وفي عام 1513، اخترق المستكشف ألبوكيرك المتصارع مع المماليك -سلالة إسلامية حكمت بين عامي 1250 و1517 مصر وسوريا وشبه الجزيرة العربية- البحر الأحمر واستولى على جزيرة كرمان، في شمال الساحل اليمني، وتمّ النظر أيضًا في فكرة بناء قلعة على جزيرة بريم في وسط المضيق قبل التخلّي عنها، كما سعى البرتغاليون من خلال قاعدة في جزيرة سقطرى قبالة سواحل الصومال إلى السيطرة على خليج عدن والوصول إلى البحر الأحمر دون تحقيق نجاح مستدام.
لم يتمكّن الأوروبيون من الاستقرار في المنطقة إلا في القرن التاسع عشر. ففي عام 1839، سيطرت المملكة المتّحدة على ميناء عدن في اليمن وحافظت على وجودها هناك حتّى عام 1967. وفي عام 1862، أتى دور الفرنسيين في السيطرة على ساحل أوبوك (جيبوتي مستقبلًا)، ثمّ تلاهم الإيطاليون الّذين اشتروا في عام 1869 ميناء عصب الإثيوبي على بعد بضعة كيلومترات من شمال المضيق. وفي السنة نفسها، هزّ حدث التوازن الجيوسياسي للبحر الأحمر: افتتاح قناة السويس.
منذ بداية الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر، لم تتوقّف التجارة العالمية على النموّ، ومرّت التجارة مع آسيا (خاصّة بين المملكة المتّحدة وإمبراطوريتها الاستعمارية) عبر رأس الرجاء الصالح وشملت رحلات طويلة ومكلفة؛ وبالتالي اندرج حفر قناة السويس بداية من عام 1859 ضمن منطق خفض التكاليف وتبسيط الإبحار باعتبار أنها تسمح بالوصول إلى المحيط الهندي أسرع مرّتين تقريبًا. ولئن كان رأس مال الشركة العالمية لقناة السويس البحرية في البداية بيد فرنسا (52%) ومصر (44%)؛ فإنّ المملكة المتّحدة -الّتي كانت على بينة من الأهمية الاستراتيجية للقناة- قد استغلت مديونية النظام المصري من أجل شراء أسهمه في الشركة في عام 1875.
أصبحت القناة المدارة من قبل فرنسا والمملكة المتّحدة رمزًا للتنافس بين هذين البلدين؛ إذ فرضت لندن وصايتها على مصر في عام 1882 وعلى أرض الصومال في عام 1888، ممّا منع فرنسا من الاستيلاء على هذا الإقليم الواقع على أبواب باب المندب. وأخيرًا، في عام 1899، أصبح السودان رسميًّا يدار من قبل مصر والمملكة المتّحدة الّتي مدّدت دائرة نفوذها من البحر الأبيض المتوسّط إلى القرن الإفريقي.
بداية من السنوات الـ1930 واكتشاف آبار النفط الأولى في شبه الجزيرة العربية، غيّرت قناة السويس ومضيق باب المندب موقعيهما؛ إذ إنّ نقطتي عبور السلع نحو آسيا أصبحتا تدريجيًّا شريانين حياتيين لتزويد الدول الغربية بالطاقة.
بعد الحرب العالمية الثانية، بدأ نفوذ فرنسا والمملكة المتّحدة في التراجع في المنطقة؛ تاركين المجال لقوّتين كبيرتين من الحرب الباردة: الولايات المتّحدة الأمريكية واتّحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية. وفي عام 1952، أطاحت الثورة المصرية الّتي قادها الضبّاط الأحرار بالنظام الملكي المدعوم من قبل لندن. وبعد 4 سنوات، أمّم ناصر -القائد الجديد للنظام المصري- قناة السويس، وما كان بإمكان فرنسا والمملكة المتّحدة -المسيطران الأساسيان على رأس مال شركة السويس- قبول مثل هذا القرار الضارّ بمصالحهما؛ لتدخّلا في مصر بالتحالف مع “إسرائيل” الساعية إلى وقف العمليات العسكرية لناصر في قطاع غزّة. ومثّلت حرب السويس -الانتصار العسكري المؤكّد- فشلًا سياسيًا ودبلوماسيًا؛ إذ أجبر الأمريكان والسوفييت فرنسا والمملكة المتّحدة على وقف القتال والانسحاب، ولم يكن أمام لندن وباريس خيارات أخرى سوى الامتثال وفقدان السيطرة على القناة الّتي أغلقت من قبل ناصر لعدّة أشهر انتقامًا.
كان للصراع العربي الإسرائيلي تأثير مهمّ على باب المندب؛ باعتبار أنّ منع استخدام القناة يفقد المضيق منطقيًّا وزنه الاستراتيجي. ففي عام 1967، بعد حرب الأيام الستّة الّتي قادتها “إسرائيل” ضدّ مصر وسوريا والأردن، تمّ إغلاق السويس حتّى عام 1975. وفي عام 1973، قرّر اليمن ومصر منع القوارب الإسرائيلية من عبور باب المندب. لذا؛ تمّ تهميش المضيق لمدّة 5 سنوات لصالح الطريق المارّة عبر رأس الرجاء الصالح. وفي عام 1976، لم تتجاوز حصّة الهيدروكربونات من حمولة العبور في القناة 28% مقابل 78% في عام 1967، وفي مواجهة عدم استقرار المنطقة؛ بقيت شركات النقل حذرة مفضّلة اتّخاذ مسار أطول ولكن أكثر أمنًا.
غيّر سياق الحرب الباردة أيضًا موازين القوى حول المضيق؛ فبداية من عام 1959، دعم الاتّحاد السوفيتي التمرّد على الملكية في اليمن. وفي عام 1967، وفي أعقاب انسحاب المملكة المتّحدة من عدن، تمّ الإعلان عن قيام الجهورية الديمقراطية الشعبية لليمن الجنوبي. لذا؛ بات بإمكان الأسطول السوفييتي الاستقرار في ميناء عدن وجزيرة سقطرى مراقبًا بذلك مدخل باب المندب. وفي عام 1969، انتقل الصومال بقيادة الجنرال سيادي بري إلى المعسكر الشرقي قبل أن يتحوّل في نهاية المطاف نحو الولايات المتّحدة بعد عام 1977 وسعيه إلى غزو إقليم أوغادين في إثيوبيا. وفي الفترة نفسها، وقّعت إثيوبيا بقيادة اللفتنانت كولونيل منجستو اتّفاق صداقة وشراكة مع موسكو؛ لتصبح جيبوتي في السنوات الـ 1970 بذلك واحدة من الدول الوحيدة في المنطقة المتحالفة مع المعسكر الغربي. ففرنسا منحتها في عام 1977 استقلالها ولكنها أبقت على قوّاتها العسكرية من أجل ردع الصومال من الاستيلاء عليها لصالح الاتّحاد السوفييتي (الذي كان لا يزال مسيطرًا على ضفّتي باب المندب).
ومثلما اتّضح من حرب أوغادين بين الصومال وإثيوبيا، أضيف منطق المعسكرات إلى الصراعات الأكثر إقليمية الّتي استمرّت حتّى مع نهاية الحرب الباردة. ففي عام 1993، وفي أعقاب حرب أهلية طويلة بدأت في عام 1961، أصبحت إريتريا مستقلّة عن إثيوبيا الّتي وجدت نفسها محرومة من واجهتها البحرية على البحر الأحمر. كما استعرت الحروب الأهلية بداية من عام 1991 في الصومال، وبين عامي 1991 و1994 في جيبوتي، وفي 1994 في اليمن. وبين عامي 1995 و1998، تواجهت إريتريا مع اليمن حول أرخبيل حنيش. وأخيرًا، في عام 1998، سعت إريتريا إلى غزو إثيوبيا؛ من أجل إعادة التفاوض على حدودها لعام 1993.
في السنوات الـ1990، بات انعدام الأمن في منطقة مضيق باب المندب مهمًّا على نحو خاصّ؛ إذ بداية من بداية القرن الحادي والعشرين، زاد تعزيز الخطر الإرهابي والقرصنة من انعدام الاستقرار الناتج عن الصراعات الداخلية وبين الدول؛ ممّا جعل من حماية هذا الممرّ الاستراتيجي أمرًا أكثر صعوبة.
التقرير