هدد التصعيد السريع الذي تلي اغتيال الجنرال الإيراني قاسم سليماني العلاقات الأمريكية-العراقية المتزعزعة أساسًا. والآن، على العراق أن يقرر كيفية الرد، بعد دراسة التداعيات غير المقصودة لأي خطوة قد يقدم عليها.
وفي الوقت الراهن، يبدو أن التصويت الذي أجرته الحكومة العراقية مؤخرًا بنتيجة 170 صوتًا مؤيدًا لخروج القوات الأمريكية من البلاد مقابل صفر– في ظل غياب الكتلتين السنّية والكردية– ساهم ربما في مفاقمة الأزمة الاقتصادية في العراق وتبديل ميزان القوى في المنطقة وتعميق الانقسامات السياسية داخل البلاد. إذ يدعي البرلمان العراقي أن الولايات المتحدة انتهكت سيادة العراق بقتلها قاسم سليماني ونائب قائد “الحشد الشعبي” أبو مهدي المهندس بضربة جوية. وخلال الأيام التي تلت عملية الاغتيال، تناقل رواد وسائل التواصل الاجتماعي خطاب موافقة مفاده أن الولايات المتحدة قد توافق على قرار البرلمان وتبدأ بسحب قواتها من العراق، غير أن البنتاغون ردّ في وقت لاحق واصفًا الخطاب بأنه “خطأ” ومكررًا حيث أنه لم يتمّ اتخاذ أي قرار بسحب القوات الأمريكية. عوضًا عن ذلك، رفضت وزارة الخارجية الأمريكية طلب الحكومة العراقية بسحب القوات، متحدثةً عن “الجهوزية والوضع المناسب للقوات الأمريكية في الشرق الأوسط”.
وفي ظل اقتصاد على شفير الانهيار ونظام سياسي يستشري فيه الفساد، على العراق التفكير جديًا بتداعيات إنهاء وجود القوات الأمريكية. فقد حذرت إدارة ترامب العراق من أنها سترد على طرد قواتها عبر تجميد حساب المصرف المركزي العراقي في نيويورك، وهي خطوة يمكنها القيام بها بموجب قانون العقوبات الأمريكية أو عند الاشتباه باستخدام الأموال في غير محلها. وقد تؤثر هذه الخطوة بشكل كبير على الاقتصاد العراقي، بما أن العراق يحتفظ بالإيرادات الدولية التي يحققها من مبيعات النفط هناك. ومن شأن منع العراق من النفاذ إلى حسابه المصرفي أن يؤدي إلى هبوط قيمة الدينار، كما حصل عام 2015– عندما منعت الولايات المتحدة العراق من التصرف بحساب مصرفه المركزي خوفًا من قيامه بتحويل الأموال النقدية إلى إيران و”الدولة الإسلامية”.
وقد هددت إدارة ترامب العراق بفرض “عقوبات غير مسبوقة عليه”، بعد قرار البرلمان بطرد القوات الأمريكية من أرض العراق. كما أن قانون العقوبات يحظر على الشركات والمؤسسات الأمريكية الاستثمار في العراق ويمنع العراق من خفض ديونه الخارجية. وبالتالي، ستزيد العقوبات الأمريكية، في أعقاب تصويت البرلمان العراقي، الاضطرابات وتعرض للخطر أي مساعٍ لتحسين البنية التحتية والاستثمار.
كما تجدر الإشارة إلى أنه في حال ازداد العراق ضعفًا، سيعزز ذلك موقف القوى الدولية والإقليمية لاستغلال اقتصاده. وفي آذار/ مارس 2019، دعا الرئيس الإيراني حسن روحاني إيران إلى توسيع تجارة الغاز والطاقة مع العراق، ما يرفع حجم التجارة الثنائية إلى 20 مليار دولار ردًا على العقوبات الأمريكية على إيران. وقد منحت هذه الزيادة في التجارة إيران دعمًا كافيًا لتحدي العقوبات من خلال استغلال المزيد من “الثغرات” المالية في العراق. كذلك، ستفتح العقوبات الأمريكية الباب أمام قوى إقليمية أخرى للاستفادة من هذه الفرصة الاقتصادية، على غرار تركيا، ما سيعزز ويزيد على الأرجح حجم التجارة مع العراق. ورغم أن الحكومة العراقية حظرت استيراد المواد الغذائية من تركيا لتشجيع الإنتاج المحلي في تموز/ يوليو 2019، ستملأ تركيا على الأرجح الفراغ الذي ستتركه الشركات الأمريكية في المستقبل.
وعلى ضوء انسحاب محتمل للولايات المتحدة، تسعى الجهات الفاعلة الدولية إلى الحصول على موطئ قدم في العراق بغية تعزيز نفوذها الإقليمي. ومن المتوقع أن يعمق العراق والصين العلاقات العسكرية التي تجمعهما في المستقبل القريب، حسبما تأكّد خلال الاجتماع الذي جمع مؤخرًا عادل عبد المهدي والسفير الصيني في العراق تشانغ تاو الذي كشف عن استعداد الحكومة الصينية لتقديم المساعدة العسكرية إلى العراق. وفي وقت سابق من هذا الشهر، قال بدوره السفير العراقي إلى إيران سعد جواد قنديل إن العراق بصدد شراء منظومة صواريخ أرض-جو روسية بغية تحديث بنيته التحتية الدفاعية وسط مخاوف من تصاعد المواجهات الأمريكية-الإيرانية على أرض العراق.
ولن يساهم انسحاب كامل للولايات المتحدة سوى في زيادة جرأة الموالين الشيعة في العراق وإخضاع المجتمع السنّي أكثر من قبل الحكومة العراقية، وسط تعزيز أجندة إيران التوسعية في البلاد وسائر أنحاء الشرق الأوسط. وقد أثبتت إيران قدراتها على القيام بذلك من خلال تحكمها بقطاعات السياسة والأمن والاقتصاد في العراق– حتى بينما كانت القوات الأمريكية متواجدة على الأرض. علاوةً على ذلك، تمكّنت إيران من بسط نفوذها من خلال التصرف كحكومة ظل في أرجاء المناطق العراقية ذات الأغلبية الشيعية. وإذا لم يتم ضبط هذه التوجهات، فهي قد تؤثر على الصراعات الداخلية في السعودية، كما حصل سابقًا عندما انتفض شيعة السعودية عام 1979. وعلى نحو مماثل، من المرجح أن يمتدّ هذا الخلاف إلى دول خليجية أخرى– على غرار الإمارات والبحرين والكويت– نظرًا إلى المجتمع الشيعي الكبير فيها.
كما أنّه لن يضمن إنهاء الوجود الأمريكي في العراق أمن البلاد واستقرارها. فمطلع كانون الثاني/ يناير، أعلنت القيادة المركزية الأمريكية أنها أوقفت تدريب القوات العراقية لمساعدتها على محاربة تنظيم “الدولة الإسلامية” ومنظمات متطرفة أخرى. وقد يدعم طرد القوات الأمريكية من العراق ما تبقى من عناصر “الدولة الإسلامية” ويعرقل محاربة منظمات إرهابية أخرى على غرار “عصائب أهل الحق”، التنظيم العسكري والسياسي الشيعي الممول من إيران.
كذلك، إن قرار البرلمان العراقي إخراج القوات الأمريكية سيرغمها على الخروج من إقليم كردستان شمالي البلاد. فالعديد من الأكراد العراقيين يدعمون الوجود العسكري للقوات الأمريكية وقد يُضعف انسحابها موقفهم. ونظرًا إلى الانقسامات الإثنية والطائفية المتجذرة في العراق، دعا عدد كبير من رجال السياسة الأمريكيين حكومتهم إلى الاعتراف بإقليم كردستان مستقل تمامًا شمالي العراق ردًا على قرار البرلمان العراقي. ويُعتبر الاستمرار في هذا المسار خطيرًا، بما أن انعدام الثقة بين الحكومة المركزية في بغداد و”حكومة إقليم كردستان” سيزداد حتمًا.
وخلال الأشهر الثلاثة الماضية، خرج العراقيون إلى الشوارع للتعبير عن غضبهم إزاء استمرار الوجود الإيراني، وهو أمر يربطه الشعب العراقي باستمرار الاضطرابات وتدهور الأوضاع الاقتصادية وانتشار الفساد. ويظهر الاستياء الساحق في أوساط الشعب العراقي كيف أن حملة بسط النفوذ التي تشنها إيران في المنطقة تواجه ردود فعل ساخطة واسعة النطاق. وعلى العراق التعامل مع هذا الوضع بحذر، بما أن طرد القوات الأمريكية لن يساهم سوى في ترسيخ قبضة إيران على العراق، ومفاقمة حدة الأزمة الاقتصادية الحالية، وزيادة الضغوط الخارجية والداخلية، وتدهور الوضع الأمني في العراق.
خير الدين المخزومي
منة الله العبيدي
معهد واشنطن