لم تفرُغ إيران بعد من مواجهة تداعيات التطورات الدرامية السريعة المباغتة، التي هبطت على رأس قيادييها في توقيت غير محسوب، وتحت عناوين توهمت أنّها من الخطوط الحمر غير المتوقعة. ولعل أبرزها اغتيال قائد فيلق القدس الجنرال قاسم سليماني.
وعلى الرغم من تخبّطها من لحظة اغتيال سليماني، استدركت إيران سريعا الضربة التي قصمت ظهرها، بعدما أدركت أنها لن تقوى على استيعابها، وكأن شيئاً لم يكن، فلملمت جراحها وحاولت إنقاذ ما يمكن إنقاذه من نفوذها في المنطقة، عبر خارطة طريق جديدة تقوم على حماية ولاية الفقيه وإعادة ترميم ذراعها الأقوى، حزب الله في سوريا ولبنان، لكن على أساس تعديل قواعد الاشتباك السياسي والعسكري مع العدو الأميركي “المفترض”.
سوريّا، لطالما شكلت حماية نظام بشار الأسد لدى إيران أولوية في إستراتيجية نفوذها وتمددها في المنطقة العربية، لذلك كان قرار المشاركة بقوة في قمع الثورة السورية، قرارا استثنائيا في ضخّ حجم كبير من القوات العسكرية والميليشياوية التابعة لإيران ولمنظومة ولاية الفقيه إلى الأراضي السورية من أجل الذود عن نظام الأسد، ولقمع المنتفضين في وجهه. عشرات الآلاف من الجنود والمقاتلين، دخلوا بإشراف وقيادة قائد فيلق القدس آنذاك قاسم سليماني بشكل متدرج منذ العام 2011، وحققوا مع التدخل الروسي الجوي عام 2015 بقاء الأسد حتى اليوم، ودمار سوريا التي باتت دولة منهكة بمؤسساتها، ومشتتة بشعبها المشرد، وشبه دولة يبدو النظام فيها مجرد أداة إقليمية ودولية، إلى حين البتّ بمستقبل “النظام” في هذا البلد من قبل الأطراف الدولية، لاسيما موسكو وواشنطن.
ليس خفيا الأبعاد الدينية والأيديولوجية المقدّسة التي سخّرتها إيران وأذرعها لتبرير تدخلها وأذرعها في سوريا، من “السيدة زينب”، إلى “الحرب المقدّسة”، إلى “شق طريق القدس”، وصولا إلى مقولة راجت عن المرشد علي خامنئي مفادها أن الشهادة في سوريا أعظم من الشهادة في مواجهة إسرائيل. وليس خفّيا اليوم أن الموقف الإيراني من صفقة القرن وما سبقها من خطوات أميركية تجاه الجولان المحتل والقدس، لم يصل في ردّ فعله إلى ما يتجاوز التنديد اللفظي، وهو ما يفضح، كيف أن الدفاع عن نظام الأسد، يتقدّم بل يعلو ولا يُعلى عليه في الإستراتيجية الإيرانية، خصوصا إذا ما قورن بتحدي إسرائيل للعالم العربي والإسلامي، عبر تقويضها كل القرارات الدولية المتصلة بالقدس وبفلسطين التي أنشأت إيران لها فيلقا باسمها، لم يقم بأي عمل عسكري ضد إسرائيل، فيما قاتل بشراسة في سوريا والعراق وغيرهما من أجل حماية أنظمة مستبدة وفاسدة.
الإستراتيجية الإيرانية على حالها لجهة أولوية تعزيز نفوذها في الدول العربية، أمّا إسرائيل فستستمر كذريعة لهذا النفوذ والتمدد، والتي أضافت إليها اليوم وضع حدّ للوجود الأميركي في المنطقة، والنتيجة المرتقبة لهذه السياسة الذرائعية، إضعاف الدول العربية وتعزيز التصدّعات المجتمعية فيها والاستثمار في انقساماتها، والحرص على عدم التصادم مع إسرائيل ومصالحها فعليّا، والسّير، معا، من موقع العداء اللفظي، إلى تقاسم النفوذ على امتداد الدول العربية.
من هنا جاء اغتيال سليماني في بغداد قبل شهر، إيذانا بترتيبات إقليمية ودولية تطوي مرحلة الأذرع العسكرية الإيرانية، لصالح تعزيز منظومة الدول التي بات إعادة تركيبها بعد تفكيكها، أمرا أكثر سهولة ويتيح لواشنطن وموسكو رسم معالم النظام السوري الجديد، الذي سيقوم على تركيب السلطة على صورة النموذج العراقي، أي رئيس جمهورية بصلاحيات محدودة من الطائفة العلوية، ورئيس حكومة بصلاحيات تقريرية من الأكثرية السنية، وحصة إيران في هذه المعادلة ستبقى رهن ما تعطيه روسيا، ومدى تجاوب إيران والتزامها بمقتضيات المصالح الدولية والإسرائيلية، ورهن التفاهم مع العرب، ودائما على قاعدة إنهاء الأذرع العسكرية في سوريا.
على هذه الرؤى والتصوّرات التي يجري بلورتها دوليا، يسير حزب الله في حقل ألغام، ويسعى إلى أن يتجاوز هذه المرحلة، عبر المزيد من فرض وجوده كطرف ضامن في هذه المعادلات الإقليمية في الدائرة اللبنانية، فحزب الله الذي يتآلف مع فكرة خروجه من سوريا، يبحث بدعم إيراني عن تعويض لما دفعه في الحرب السورية، وهو تعويض يتمثّل في الإمساك بالمعادلة اللبنانية، والسيطرة على هذه الدولة ضمن تفاهمات دولية وإقليمية.
هذا التطلّع لدى حزب الله ومن خلفه إيران، يكتسب أهميته في كونه طرفا داخليا لبنانيّا، يستند إلى تأييد ونفوذ جدّي في الطائفة الشيعية، لكن الأهم من ذلك يكمن في أن الحزب سيكون عليه، أن يقدم التزاماته بشأن حفظ الاستقرار لاسيما على حدود لبنان الجنوبية مع إسرائيل، كما كان عليه الحال في السنوات السابقة، وهو أمر ستبقى كلفته محمولة لديه طالما أن السلطة كانت هدفا رئيسا في حروبه، وتتقدّم على كل ما يظهره من شعارات تتنافى مع هذا السعي أو الطموح.
العودة إلى لبنان بالمعنى التعويضي عن كل الدماء التي أسالها في سياق رسم معالم المنطقة العربية، قد يبدو مشروعاً في لعبة المحاصصة والتوازنات في الإقليم، لكن السؤال الذي تبدو الإجابة عليه غير واضحة حتى اليوم، ينطلق من أن التحديات الملحّة والطاغية في لبنان اليوم، لا يمكن مقاربتها على طريقة “7 أيار 2008” ولا بأسلوب “القمصان السود” عام 2011 ولا بطريقة حرب العام 2006، ولا على طريقة متطلبات مواجهة الإرهاب الداعشي أو السنّي أو الوهابي، فتلك عناوين من مخلفات ما قبل سليماني، وقبل اغتيال القيادي عماد مغنية، وما قبل – قبل انكشاف الدور الإيراني الذي باتت أزمته الفعلية مع المجتمعات العربية، أكثر مما هي مع المصالح الروسية أو الأميركية وصولا للإسرائيلية، فإيران في أحسن الأحوال اليوم بالنسبة للشعوب العربية، هي دولة ساعية إلى حماية نفوذها ببناء تفاهمات مع الدول الكبرى في أوطانهم.
من هنا فإن التحدي في لبنان مختلف عمّا ألفه حزب الله، إذ هو تحدّ مالي واقتصادي ويتصل ببناء الدولة وترميمها، ذلك أن الحزب الذي قامت أيديولوجيته على مقولة إن لبنان ساحة وليس وطنا أو دولة تستحق ولاء المواطن لها، عمد منذ تأسيسه على الالتفاف على أي فكرة أو مشروع يدفعان نحو ترسيخ الدولة ومفهوم المواطنة فيه، لذا لن تجد في أدبيات الحزب ولا في اهتماماته النظرية أو الأيديولوجية، أية مساهمة جادة تعكس رؤيته لإدارة الشأن العام أو الاقتصاد، أو النظام السياسي، ولا حتى الدور الإصلاحي الذي يجب أن يضطلع به.
التحديات يواجهها حزب الله اليوم محكومة بعقلية المحافظة على نفوذه أولا وأخيرا، حيث أعلن على لسان أمينه العام حسن نصرالله، أنه سيحمي النظام، ولكن التدقيق في مقولته يفضي إلى أنه سيحمي من النظام بما يتيح له استمرار الارتباط الوثيق بإيران، ويحصّن ما يعتبره خصوصية طائفية كورقة تبرر له حفظ سلاحه بذريعة المقاومة والدفاع عن أهله، ويأخذ بيد النظام بشرط أن يبقى هو المسيطر على المعادلة السياسية الداخلية كما هو الحال الآن، وهو مع النظام طالما أنّ الخوف قائم لدى الأقليات التي ينتظر منها دائما الامتنان، لأنه حماها أو يحميها من الإرهاب السنّي القادم من الشرق، كما يزعم.
أما إذا رفض اللبنانيون هذه المقايضة المصطنعة، فهو سيرفع لواء إلغاء النظام أو الطائفية السياسية، لكنه سيرفعه بنكهة طائفية، أي أنه التنظيم الشيعي المغلق والمسلّح الذي يقول بلا تردّد أنا مع إلغاء الطائفية السياسية في رسالة لا تخلو من التهديد الضمني بأنه سينتقل من حكم لبنان بالقوة العسكرية، بإضافة القوة العددية الطائفية إليها، ودائما بعنوان إلغاء الطائفية السياسية. أي أنّ الشكل الذي سمح ببقائه على مستوى السلطة من تقاسم المواقع والمناصب اليوم، سينتهي ليتطابق الشكل مع المضمون، أي لا حكم إلا لـ”حزب الله”.
يبقى أن الأسئلة الطاغية اليوم هي المتصلة بالاقتصاد ودور لبنان على هذا الصعيد، وبإنقاذ المالية العامة والعملة الوطنية ومواجهة الفساد المستفحل ولجم الانهيار الاجتماعي، وهي تحديات باتت تثقل على مشروع حزب الله الذي لا يزال يتخفّى خلف حكومة حرص على أن يكون فيها 12 وزيرا من أصل 20 يحملون جنسية “الشيطان الأكبر”، وهي رسالة يريد من خلالها حزب الله استعطاف الخارج، لا أكثر ولا أقلّ، بعد أن حسم أمر إدارة الظهر إلى انتفاضة الداخل ومطالب المنتفضين.
العرب