يحمل كل يوم يمر على المنتفضين، في ساحات التحرير، في العراق، تحديات جديدة بشكل حواجز كونكريتية. يواجهونها كما يفعل عدَاء الحواجز ولكن ليس على مسافة مائة متر المتعارف عليها، بل مسافة الماراثون، أي بالكيلومترات. ففي الاسبوع الماضي، تمكنوا من تجاوز أحد الحواجز التي تعوَد مقتدى الصدر، زعيم التيار الصدري وميليشيا سرايا السلام، على نصبها كلما بانت في الأفق ملامح تغيير حقيقي في منظومة الفساد والطائفية والقتل التي تسمى « حكومة». فعلى مدى عمر الانتفاضة التي بدأت في الاول من تشرين / اكتوبر الماضي، كان أتباع الصدر يتناوبون على البقاء في الساحات حينا، مدعين توفير الحماية للمنتفضين، والخروج منها حينا آخر بناء على أوامر «السيد» المتقلبة بسرعة تنافس سرعة المروحيات في قيظ تموز العراق. هناك قائمة طويلة من تقلبات المواقف التي اتخذها الصدر، منذ احتلال البلد عام 2003، وصارت سمة عجنت بها شخصية «السيد» وتصريحاته التي باتت أضحوكة كارتونية، إلى حد دفع عددا من المنتفضين الى رفع شعار «ما نريد وطنا… نريد نعرف ماذا يريد الصدر».
ركز الصدر وأتباعه، في الاسابيع الاخيرة، على تهيئة الأرضية لهجوم ميليشياوي تحت أنظار الحكومة والبرلمان والقوات الأمنية التي، غالبا، ما نراها في الفيديوهات، التي تصلنا لتوثيق يوميات الانتفاضة، وهي تقف متفرجة على مسلحي الميليشيات وهم يطلقون النار على المنتفضين، كما يقومون باعتقالهم واختطافهم ترويعا للآخرين. واذا كان رئيس الجمهورية برهم صالح قد تحول، فجأة، الى بطل وطني يتحدث، بأسى عن خلافات الأحزاب الشيعية التي تمنعها من ترشيح رئيس وزراء نزيه، فان أعضاء البرلمان لم يكلفوا انفسهم عناء الدوام، متمتعين بالإجازة باستثناء اليوم الذي نفذت فيه القوات الأمريكية عملية اغتيال « الضيف الإيراني»، قاسم سليماني، يومها وقفوا مرددين هوسة «كلا كلا أمريكا»، فكانت ردة فعل المنتفضين «ألعن أبو إيران لأبو أمريكا»، فالاحتلال، حسب منظورهم واحد حتى لو ردد البعض أن خرمشة أمريكا أكثر ألما من خرمشة إيران. بهذا أثبت المنتفضون وعيهم الذي تجاوز الأحزاب التاريخية المهترئة، والجديدة الطائفية، حول مفاهيم التلاعب السياسي، والقبول بالأمر الواقع، وتقاطع المصالح الذي قاد العراق من مصيبة الى كارثة.
أدى الهجوم على خيم المنتفضين وحرقها، في الاسبوع الماضي، الى ازدياد عدد المتظاهرين بدلا من ترويعهم واجبارهم على الانسحاب، مما دفع أتباع « السيد» الى العودة الى الساحات ومحاولة السيطرة عليها بالقوة، تحت مسمى «ذوي القبعات الزرق» في ذات الوقت الذي كانت فيه ماكنة أحزاب النظام تتهيأ لاحتواء الانتفاضة، سياسيا، بعد أن صمد المنتفضون، حتى الآن، أمام الاختطاف والتعذيب القتل والرش بالغاز القاتل.
لم لا يحاول محمد توفيق علاوي، وهو في المنصب الذي رضي بتسنمه، ولديه الدعم من تحالفين يملكان أشرس الميليشيات، وبمباركة إيران وأمريكا وحتى ترحيب الأمم المتحدة، أن يكسب ثقة الشعب بإجراء خطوات يمكن تنفيذها خلال أيام، على غرار اطلاق سراح المحتجين المعتقلين، ومحاسبة القتلة والجلادين؟
جاء التحرك السياسي تحت غطاء الحرص على الوطن والمتظاهرين وشعار « كلا، كلا، أمريكا»، لمقتدى الصدر، الذي بات مثل الطعام البائت غير المستساغ. اذ اتفقت كتلتا «الفتح» بزعامة هادي العامري، و«سائرون» بزعامة الصدر، بعد محادثات سرية بين الأحزاب المتصارعة، وبالتوافق مع إيران وأمريكا، على تعيين محمد توفيق علاوي، رئيسا للوزراء يحل محل عادل عبد المهدي الذي أجبره المنتفضون على الاستقالة. من المفارقات التي أثارت غضب المنتفضين السلميين كونه ذات التحالف الذي أوصل عبد المهدي الى المنصب. وإن سيرة حياة علاوي، تكاد تطابق سيرة عبد المهدي، في تذبذبه السياسي من تابع لآل الصدر إلى حزب الدعوة الشيعي، ومن قائمة « العراقية» العلمانية إلى تقديم نفسه كمستقل. عاد علاوي إلى البلد مع الاحتلال الأمريكي، انتخب نائبا، ثم تم تعيينه في حكومتي نوري المالكي (2006 ـ 2014) التي ساهمت بتحويل العراق إلى حقل قتل طائفي، تخلله قصف مدن المقاومة بالبراميل الحارقة، ومشاركة المحتل الأمريكي الاحتفالات بذريعة محاربة الإرهاب. أين هو علاوي من مطالب المتظاهرين وشروطهم لاختيار رئيس وزراء لتشكيل حكومة المرحلة الانتقالية؟ لا تدل سيرة علاوي وتاريخه القريب، على أنه يحمل أيا من المواصفات المطلوبة التي ستضمن عودة المنتفضين الى بيوتهم، ومنحه فترة زمنية يتم فيها تحقيق بقية المطالب حسب أولويتها من إجراء انتخابات بإشراف أممي، وتنظيف البلاد من الفساد، ومحاكمة المسؤولين عن قتل 700حوالي متظاهر وجرح 25 ألف واطلاق سراح المعتقلين المتعرضين، حسب كل التقارير الحقوقية المحلية والدولية، إلى أبشع أنواع التعذيب. فهو ابن العملية السياسية التي أسسها الاحتلال، واعتاشت عليها الأحزاب الممثلة بمجلس الحكم اولا وحكومات الاحتلال، بميليشياتها، ثانيا. واذا كان قد استقال من حكومة المالكي، عام 2012، لأن المالكي «لا يتخذ أي إجراء ضد المقربين منه بتهمة الفساد»، فقد جاءت الاستقالة بعد حوالي عشر سنوات من الصمت كبرلماني ووزير في حكومة أبدعت بخطف وقتل وتعذيب المعارضين بالإضافة الى مأسسة الفساد. ما يستحق الذكر أن علاوي صرح حينئذ، وبعد اتهامه هو نفسه بالفساد، واصدار حكم عليه، أنه « يملك وثائق تؤكد وجود عمليات كسب غير مشروع داخل الحكومة، وأنه سيكشف عنها في الوقت المناسب». وها هي قد مرت 8 سنوات على استقالته، وفرخ الفساد الإرهاب، وهو مقيم ببلد يستطيع فيه، كمواطن بريطاني، أن يقيم الدعاوى على الفاسدين، اذا اراد وهو آمن على نفسه وعائلته، فمتى هو الوقت المناسب؟
ماذا عن الآن، ولنفترض انه (أو غيره من مرشحي النظام)، يستحق اعطاء فرصة للعمل خاصة بعد أن بين في خطابه الأول اتفاقه مع المنتفضين في كل طلباتهم حاثا إياهم على البقاء في الساحات (كأن المنتفضين يتمتعون بالبقاء في الساحات، ليلا نهارا، وهم يحملون حياتهم على أكفهم) ؟ لم لا يحاول، وهو في المنصب الذي رضي بتسنمه، ولديه الدعم من تحالفين يملكان أشرس الميليشيات، وبمباركة إيران وأمريكا وحتى ترحيب الأمم المتحدة، أن يكسب ثقة الشعب بإجراء خطوات يمكن تنفيذها خلال ايام، على غرار اطلاق سراح المحتجين المعتقلين، ومحاسبة القتلة والجلادين؟ واذا كان فعلا يريد القضاء على الفساد، كما اعلن، فلم لا يكشف وثائق الاختلاسات والفساد التي يملكها؟ أم أن على المنتفضين أن يعيشوا، في وطنهم، رهائن لتدوير سلسلة الأكاذيب مرة أخرى!
هيفاء زنكنة
القدس العربي