“دماء جنودنا لن تذهب سدى”، هذا ما أعلنه أمس وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، بعد قتل ستة جنود أتراك ومواطن مدني يعمل في الجيش بنار قوات الجيش السوري. وبعد فترة قصيرة تحول هذا الإعلان إلى أكثر من مجرد أقوال. قوات تركية هاجت عدة مواقع للجيش السوري وتسببت بقتل 30 جندياً، حسب تقارير تركية. ربما كانت هذه هي المواجهة الأكثر عنفاً في الفترة الأخيرة بين القوات التركية والقوات السورية، التي يمكن أن تتوسع إذا لم تنجح روسيا وتركيا في تطبيق التفاهمات التي تم التوصل إليها فيما بينهما، وتم تثبيت وقف إطلاق النار الذي تم الاتفاق عليه في 12 كانون الثاني.
مركز المواجهة كان (وما زال) في محافظة إدلب التي يوجد فيها 50 – 70 ألفاً من رجال المليشيات الذين جاؤوها من أرجاء سوريا. معظم المقاتلين ينتمون إلى تنظيمات إسلامية راديكالية، مثل جبهة تحرير الشام (أحفاد جبهة النصرة) ومقاتلين من دول أجنبية، تحديداً من القوقاز. بالنسبة للأسد، تعدّ هذه المحافظة العائق الأكبر الأخير أمام سيطرته على جميع أراضي الدولة. ولكن لا يوجد لأي طرف من الأطراف المشاركة في الحرب بسوريا أي حل قابل للتطبيق يؤدي إلى إبعاد المسلحين.
في خلفية كل ذلك يقف الاتفاق الذي وقع في أيلول 2018 بين روسيا وتركيا، الذي –بحسبه- أخذت أنقرة المسؤولية عن تجريد هذه المليشيات من سلاحها، في حين أن روسيا وسوريا امتنعتا حتى ذلك الحين عن القيام بعملية عسكرية شاملة قد تتسبب بموجة لاجئين جماعية في المحافظة التي يعيش فيها 3 ملايين نسمة. تركيا، كما كان واضحاً من البداية، لم تنجح في تنفيذ هذه المهمة في المهلة الزمنية التي تم تحديدها، وتمت إطالتها المرة تلو الأخرى. ورغم التحذيرات الروسية والضغط الدبلوماسي على أنقرة، لا يمكنها إقناع المليشيات بالتخلي عن سلاحها أو المغادرة إلى دول أخرى. الضغط الدبلوماسي الروسي تحول مؤخراً إلى ضغط عسكري موجه، عندما بدأت قوات روسية وسورية بمهاجمة واحتلال بلدات وقرى في محافظة إدلب. وفي الأسبوع الماضي، سيطرت على أحد المحاور الرئيسية وعلى مدينة معرة النعمان في المحافظة التي كانت تحت سيطرة المتمردين منذ العام 2012. أدى الهجوم العسكري، كما هو متوقع، إلى هرب المدنيين نحو الحدود مع تركيا. وحسب تقارير منظمات الإغاثة، فإن نحو 110 آلاف شخص وصلوا قرب الحدود التركية، وسيزداد الضغط كلما استمر الهجوم.
تركيا التي قدرت بأنه يمكنها صد الهجوم وموجة اللاجئين، ظهرت كمن فقد السيطرة على العمليات العسكرية والسياسية. وهي الآن تضع علاقتها مع روسيا محل اختبار شديد. في تصريح غير مسبوق (على الأقل منذ عادت العلاقة بين الدولتين إلى سابق عهدها في 2016)، قال الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بأن “روسيا تقول لنا إنها تحارب الإرهابيين. من هم هؤلاء الإرهابيون؟ إنهم مواطنون يحاولون الدفاع عن بيوتهم”. بعد ذلك، اتهم أردوغان روسيا بأنها لا تفي بالتزاماتها حسب اتفاق الأستانة واتفاق سوتشي: الاتفاق على المناطق الآمنة وعدم مهاجمة محافظة إدلب. “لقد انتظرنا حتى الآن. ولكن من الآن سنعمل بصورة مستقلة”، قال. “هذا ليس تهديداً، لكننا ننتظر أن تقوم روسيا بنقل التحذير المناسب للنظام السوري”.
ذهب أردوغان إلى أبعد ذلك، ووضع موسكو أمام تهديد إنذاري: “إذا كنا شركاء مخلصين فيجب على روسيا توضيح سياستها بشكل واضح. إما أن تتبع سياسة مختلفة تجاه سوريا أو تجاه تركيا. لا يوجد خيار آخر. لقد نفد صبرنا”. المشكلة هي أن تركيا دولة بقيت دون خيارات، ولن تسمح لنفسها بأن تضر بعلاقتها مع روسيا، حليفتها القوية الوحيدة التي بقيت لها بعد أن شرخت علاقاتها مع الولايات المتحدة، وتدرك أيضاً بأن عملية عسكرية ضد القوات السورية يمكن أن تضعها على مسار تصادم عنيف مع الكرملين. وفي المقابل، لا يوجد لها أي نفوذ حقيقي على مقاتلي المليشيات في إدلب، ولا يوجد لها أي حل لمئات آلاف اللاجئين الذين يمكن أن يجتازوا الحدود إلى داخل أراضيها. تركيا أسيرة السياسة التي بلورتها لنفسها، ومن المشكوك فيه أن توقف تحذيراتها الموجهة لروسيا، إلى جانب أقوال أردوغان الفظة، تلك العملية العسكرية التي بدأتها دمشق وموسكو باتجاه محافظة إدلب.
بعد احتلال مدينة عفرين وعدد من المحافظات في غرب الفرات كجزء من المعركة التي تديرها ضد القوات الكردية في سوريا، ستضطر تركيا إلى أن تقرر ما إذا كان تورطها العسكري في دولة، لن يجرها عميقاً جداً إلى داخل ساحة قد تكون هي نفسها فيها هدفاً للهجوم. حتى الآن، تتعامل روسيا مع أقوال أردوغان بتهذيب بارد، وتستمر في الحديث عن الحرب ضد الإرهاب. ما زالت تركيا حليفة مهمة، خاصة في المعركة السياسية التي تديرها روسيا ضد الولايات المتحدة. ولكن موسكو تطمح أيضاً إلى أن تنهي بسرعة الحرب في سوريا وتقليص تكلفتها، وتنقل للأسد السيطرة الكاملة على سوريا. وإذا اعتبرت تركيا في نظرها عائقاً أمام تحقيق أهدافها فإن التحالف بينهما قد يعصف به صقيع الشتاء الخطير.
القدس العربي