بقدر ما سيأخذ رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون مساراً وسطياً في السياسة الداخلية، فمن المرجح أن يكون متشدداً ضد الاتحاد الأوروبي، وهو ما عكسه خطابه الذي ألقاه عقب خروج لندن من الاتحاد حيث حدّد هدف حكومته للمفاوضات مع بروكسل جامعاً بين الوعود حيناً والتهديدات حيناً آخر.
ويأتي ذلك وسط مسار انتهجه الاتحاد الأوروبي لحرية إنجاح خيار بريطانيا بمغادرة التكتل، ولتصور واضح لدى بروكسل، وهو أن المصلحة المشتركة بين الطرفين تقتضي تجنب الضرر، إلا أن ذلك لا يعني وهم الاعتقاد بأن الأسوأ قد انتهى مع الخروج من التكتل، بل هناك الكثير مما يجب التباحث حوله مع بريطانيا لتوضيح العلاقة السياسية والأمنية والتجارية المستقبلية بين الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة.
وتوازياً تطرح التساؤلات عما إذا كان جونسون يسعى إلى إقامة علاقات وثيقة مع الولايات المتحدة بعد أن يكون قد استمع إلى النداءات عبر الاطلسي، على الرغم من التصريحات الإيجابية للمسؤولين في بروكسل التي تشدد على أهمية الحفاظ على شراكة دائمة وإيجابية وذات مغزى مع المملكة المتحدة.
إلى ذلك، تفيد المعطيات بأنه وعلى الرغم من أن التجارة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي تبلغ ضعفي مما هي مع الولايات المتحدة، إلا أن لندن تميل إلى اعتبار الولايات المتحدة أكثر أهمية من الناحية الاستراتيجية من أوروبا.
وفي هذا السياق، تشير صحيفة “دي تسايت” إلى أن حلم انغلوسفير” الفضاء للدول الناطقة باللغة الإنكليزية من كندا إلى أستراليا مع الولايات المتحدة”، باعتبارها أهم قوة، يراود رئيس الوزراء البريطاني، إلا أن هذا الحلم يبدو صعب التحقق مع وجود زعماء من حول العالم أمثال الرئيسين الروسي والصيني، بحيث قد يظهر لاحقاً أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وكأنه انتحار جماعي.
هذا الأمر شددت عليه رئيسة المفوضية الأوروبية فون دير لاين عندما قالت، أخيراً، “لا توجد بطاقة مجانية للسوق الداخلية الأوروبية، إنما حقوق والتزامات”.
وبالنسبة لبروكسل فإن المسألة تقوم على التزام لندن بقواعد ومعايير الاتحاد الأوروبي، لأن الالتزامات الشفوية بالكاد تكون كافية بالنسبة للأوروبيين لإبرام صفقة تجارية مع بريطانيا، وما لذلك من تأثير على 500 مليون عامل ومستهلك على كلا الضفتين، على الرغم مما هو مسلم به بأن أوروبا مزيج من المصالح والميزات الخاصة، والخروج لا يؤدي بالضرورة إلى الاغتراب، ومع الاعتقاد السائد بأن بريطانيا ستبقى جزءاً جغرافياً وسياسياً من أوروبا ولم تخرج في بريكست سوى عن المؤسسات، لأن المصالح وثيقة الارتباط وهي كثيرة. ومن بينها الأسواق والأمن والتعليم والعمل ولكن إدارة العلاقات سيكون أكثر صعوبة.
ويعود السبب بحسب المحللين، إلى أنه من الممكن أن يكون للمحادثات التجارية تأثير عكسي، وقد تساعد بريطانيا لتصبح أكثر اتحاداً وفي المقابل تعمق الانقسامات الحالية داخل التكتل الأوروبي، وربما تساعد توجهات واستراتيجية جونسون في ممارسة أقصى ضغط على الاتحاد الأوروبي وبالتوزاي على ترامب كحليف للحصول على صفقة أفضل مما يطرح عليه في بروكسل.
هذا ويطمح جونسون وزملاؤه، بعد بريكست، إلى بريطانيا عالمية جديدة من شأنها أن تعزز علاقات لندن مع الولايات المتحدة ودول كومنولث وهذا ما سيسمح لها ببناء علاقات تجارية مع دول الشرق الأقصى.
لكن يبقى الخوف من أن تكون للأمر عواقب وخيمة إذا توقفت التجارة بين الجانبين أو كانت مثقلة بالتعريفات المرتفعة وبالتالي التكاليف، وهو ما لفت إليه جونسون وبأنه إذا لم يكن هناك اتفاق فسوف تطبق شروط منظمة التجارة العالمية، وبالتالي فإن الوضع التنافسي سيزداد سوءاً، مع ضرورة أن يتكيف كلا الجانبين مع حقيقة أنه ومع نهاية الفترة الانتقالية لن تكون هناك حركة بضائع سلسة كما كانت من قبل.
في المقابل، تدور النقاشات عن أن بريكست قسّم بريطانيا ووحّد الاتحاد الأوروبي، وعلى الأخير ضمان ألا تتأثر سلباً المحادثات التجارية مع بريطانيا أو أن تغذيها التوترات الداخلية لأنه من الأهمية بمكان أن تظل بريطانيا الشريك الاستراتيجي الرئيسي للاتحاد، خاصة أنه من دون القدرات العسكرية البريطانية لن يتمكن الاتحاد من تحقيق هدفه المتمثل في أن يصبح مركز قوة ذاتية، بالنظر إلى عدم اليقين المتزايد بشأن دور الولايات المتحدة في أوروبا.
وفي خضم ذلك، بينت “تاغس شبيغل” أن نجاح البريطانيين، إذا حصل، سيكون للاتحاد الأوروبي مصلحة فيه لأنه سيظهر أين يمكن أن يتحسن الاتحاد، وربما التعلم أيضاً من أي شيء لا يسير على ما يرام مع البريطانيين.
مع العلم أن هذه المنافسة جيدة لألمانيا، رغم خسارتها حليفاً لها في بروكسل في الصراع مع مجالات أساسية عدة في الاقتصاد في أوروبا، وفي أحسن الأحوال ستتحول بريطانيا إلى أحد مثيري الشغب داخل القارة، الأمر الذي سيدفع أوروبا للمنافسة من خلال قوتها الإنتاجية.
وهنا تبرز الشكوك من أن تعمد لندن وعند التحرر من الاتحاد إلى المسارعة في اتخاذ القرارات والتصرف بشكل أكثر جاذبية وتكون أكثر انفتاحاً على التبادل حول العالم. مع العلم أنه في البداية تم استبعاد المشكلات الأكثر تعقيداً مثل الخدمات المالية أو تبادل البيانات، واليوم ليس معلوماً ما إذا كان جونسون مستعداً لمواصلة توجهاته نحو السوق الداخلية الأوروبية في مسائل قانون الضرائب والعمل وكما في القطاعات الاجتماعية والبيئية والصحية أو سيتم الانحراف عن قواعد ومعايير الاتحاد الأوروبي.
كل ذلك في ظل ثابتة وحيدة، وهي أنه ومع خروج بريطانيا، وفق صحيفة “زود دويتشه تسايتونغ”، فإن المساهمات الوطنية ستتغير في الاتحاد وسينكمش الناتج المحلي الإجمالي بشكل كبير، إذ إنه بعدما كان 15.9 ترليون يورو سيتراجع إلى 13.5 تريليون، حيث كانت مساهمة بريطانيا 4.2 ترليونات يورو على الأقل.
وحيال ذلك، زادت الدعوات أخيراً إلى تخفيض ميزانية الدول السبع والعشرين، ألا أن البرلمان الأوروبي يبدو أنه يواجه الكثير من التحديات الرئيسية مثل تغير المناخ والرقمنة والصناعة والبحوث والطاقة، بحيث بات المطلوب سد الفجوة في الكتلة النقدية التي خلفتها بريطانيا، والمقدرة بحسب مفوض الاتحاد الأوروبي غونتر اوتينغر بنحو 12 مليار يورو في ميزانية إجمالية تبلغ حوالي 160 مليار يورو سنوياً، والتي قد تزداد ببطء إلى 14 مليار سنوياً.
مع العلم أن دراسة لمؤسسة برتلسمان بيّنت أن خروج بريطانيا من الاتحاد سيكلف كل مواطن ألماني 115 يورو، في حين أن تكلفة خروج بريطانيا من الاتحاد ستكلف البريطاني 64 يورو فقط. إلا أن خروج بريطانيا شجع غالبية مواطني الاتحاد للاعتقاد أن عضوية بلادهم في الاتحاد أمر جيد ولديها رأي إيجابي فيه.
وفي هذا الإطار، تبين الدراسات أنه عندما يتعلق الأمر بمساهمات الدائنين والمستفيدين لا ينبغي أن ننسى أنه لا يمكن تقييم مزايا وعيوب الاتحاد فقط من حيث الرصيد، إنما الاتحاد يؤمن بعض الأمن السياسي والاستقرار وحرية حركة الناس والتجارة، كما أن الهدف يتمثل أيضاً في تعزيز التماسك والتضامن الاقتصادي والاجتماعي، حيث تدعم الدول الأعضاء الأقوى في الاتحاد الدول الصغيرة الأضعف وهي تتلقى المساعدة في مجال التطوير والتنمية.