تبدو احتمالات بدء مفاوضات بين الولايات المتحدة وإيران اليوم أبعد مما كانت عليه في أي وقت مضى، وقد وصلت احتمالاتها، في رأي كثيرين، إلى الصفر، بعد تصفية الولايات المتحدة قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، اللواء قاسم سليماني، وقادة آخرين في مليشيات تتبع إيران في العراق مطلع العام. ويظهر أن سياسة الضغوط القصوى التي أطلقتها إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بالتزامن مع انسحابها من الاتفاق النووي في مايو/ أيار 2018، أدت إلى ردود فعل عكسية في إيران، اذ عزّزت موقف الرافضين لأي مفاوضات مع واشنطن. وفي المقابل، يلاحظ متتبع تاريخ العلاقات الأميركية – الإيرانية، منذ سقوط نظام الشاه عام 1979، أن المفاوضات الأميركية – الإيرانية لم تكن تجري، إلا في أصعب الأوقات، وحين يكون الخطاب العدائي بين البلدين مرتفعا إلى درجة يظن المرء معها أن الحرب واقعة لا محالة. والواقع أن أحدنا يمكنه أن يستخلص نتيجة رئيسية من تتبع تاريخ التعامل بين واشنطن وطهران على مدى العقود الأربعة الماضية، وهي أنه كلما ساءت العلاقات، واحتدّت نبرة الخطاب العدائي في العلن، زادت احتمالات أن يكون الطرفان منخرطين في مفاوضات سرّية. وقد استخلص الأميركيون نتيجةً مفادها بأن إيران لا تفاوض إلا تحت الضغط، ويستدلون على ذلك بسلسلة من الحوادث الشهيرة.
في عام 1980، وفيما كان الإيرانيون يردّدون شعارات “الموت لأميركا”، كانت الحرب مع العراق تدفع حكومة الثورة إلى التواصل سرًا مع حملة المرشح الجمهوري، رونالد ريغان، لحل أزمة رهائن السفارة الأميركية في طهران، حيث تم الاتفاق معها على تأخير إطلاق سراحهم إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية، في مقابل وعود بتنفيذ عقود سلاح كانت وقعتها حكومة الشاه، وأوقفتها إدارة الرئيس كارتر بسبب اقتحام السفارة. في عام 1984، وفيما كانت طهران ترمي الشيطان الأكبر بحجارةٍ من سجّيل، كانت مستغرقة سرًا في مفاوضات معه للحصول على دفعة جديدة من إمدادات السلاح، تم شحنها هذه المرة من إسرائيل. واستخدمت إيران في هذه الجولة ورقة الرهائن الذين كان حزب الله قد اختطفهم في لبنان. حولت إيران، بموجب الاتفاق، ثمن السلاح إلى حركة التمرد في نيكاراغو (الكونترا) التي كانت تحارب ضد حكومة الساندينيستا اليسارية، برئاسة دانييل أورتيغا، وقد مكّن ذلك ريغان من الالتفاف على قرار الكونغرس الذي كان فرض حظرا على دعم حركات مسلحة أجنبية.
في إبريل/ نيسان 1988، دمّرت الولايات المتحدة 90% من القدرات البحرية الإيرانية، بعد أن اصطدمت المدمرة الأميركية، صمويل روبرت، التي كانت تتولى حماية ناقلات النفط في الخليج بلغم بحري إيراني. فهمت إيران أن العملية الأميركية تمثل انحيازا كاملا للعراق في الحرب ضدها، فقرّرت قبول قرار مجلس الأمن الدولي رقم 598 لوقف إطلاق النار، بعد أن ظلت ترفضه منذ صدوره في يوليو/ تموز 1987.
في عام 2001 عرضت طهران مساعدة واشنطن في إطاحة نظام حركة طالبان، عبر علاقاتها القوية بتحالف الشمال، وساعدتها كذلك في إطاحة نظام الرئيس صدام حسين، عبر علاقتها مع المعارضة العراقية. ومع تنامي مخاوفها من نوايا واشنطن تجاهها، بعد أن باتت تحيط بها من الشرق والغرب، عرضت طهران تسليم برنامجها النووي، ولكن إدارة الرئيس بوش الابن تجاهلت العرض، لاعتقادها أن النظام الايراني آيل للسقوط، وأن أي مفاوضات معه سوف تعزّز موقعه.
في عام 2013، وفيما كان الرئيس أحمدي نجاد يهدد بإزالة إسرائيل من الوجود، وبحرق الأساطيل الأميركية في المنطقة، كانت إدارته منخرطة في مفاوضاتٍ سرّية مع واشنطن في عُمان، تعود بداياتها، بحسب تفاصيل كشفتها صحيفة وول ستريت جورنال، إلى الأشهر الأولى التي تلت وصول الرئيس أوباما إلى الحكم عام 2009. قبول إيران بالشروط القاسية التي فرضها الاتفاق النووي جاء نتيجة العقوبات الشديدة التي فرضتها إدارة أوباما بين عامي 2010-2012.
بالنتيجة، يمكن القول إن هناك ميلا عاما في العلاقات الإيرانية الأميركية تتزايد وفقا له احتمالات التفاوض طردا مع تزايد منسوب الخطاب العدائي، ما يعني أنه يجدر بنا توقع وجود مفاوضات سرّية تجري الآن بين الطرفين، تحت غطاء سميك من دخان العداء اللفظي.
مروان قبلان
العربي الجديد