تتشكل الحكومات الانتقالية، أوالمؤقتة، أو التكنوقراط، عادة في حال وصلت الدولة إلى حالة من الأنسداد السياسي، أو حصلت ازمة ما، أفضت إلى عجز الاحزاب السياسية، الممثلة في مجلس النواب، عن تشكيل حكومة تحظى بقبول الجمهور.
والأمثلة على هكذا حكومات كثيرة، أشهرها الحكومة المؤقتة في روسيا، التي تشكلت بعد تنازل القيصر نيقولا الثاني عن الحكم في آذار/ مارس 1917، والتي قامت في مرحلة لاحقة بحل مجلس الدوما/ النواب. أو الحكومة الهندية التي تشكلت كمرحلة انتقالية بين مرحلة الاحتلال البريطاني ومرحلة الدولة الوطنية، واستمرت لمدة عام كامل تقريبا، بين أيلول/ سبتمبر 1946 و آب/ اغسطس 1947.
وتعد ايطاليا النموذج الأبرز لإنتاج هكذا حكومة؛ إذ غالبا ما يتم اللجوء إلى حكومات مؤقتة/ إنتقالية في هذا البلد، لتجاوز الازمات السياسية التي تمنع استمرار الحكومات المنتخبة القائمة بعملها.
وفي بعض الحالات التاريخية لم يحتج هذا النوع من الحكومات إلى الحصول على الثقة في مجلس النواب، كما هي حالة حكومة نجيب ميقاتي، التي تشكلت في لبنان عام 2005، في أعقاب أغتيال رفيق الحريري واستقالة حكومة عمر كرامي، وكانت مهمتها التمهيد لانتخابات عامة مبكرة.
في خارطة الطريق التي اقترحناها منذ بداية الازمة، وقبل استقالة الحكومة، تحدثنا عن حكومة مؤقتة تنحصر مهمتها في إدارة انتخابات مبكرة بعد تشريع قانون انتخابات وتشكيل مفوضية انتخابات جديدة يضمنان انتخابات نزيهة وشفافة! لكن الى هذه اللحظة لا تبدو ملامح الحكومة المفترضة واضحة، بعد تكليف السيد محمد توفيق علاوي على خلفية استمرار الاحتجاجات المندلعة منذ ما يزيد على أربعة أشهر.
الحقيقة أن هذا التكليف مر في أجواء اكتنفها الغموض، فلا أحد يعرف «الكتلة الاكثر عدداً» التي رشحت السيد علاوي! ومن الواضح ان رئيس الجمهورية، وفي سياق سياسة الاتفاقات/ الصفقات التي تحكم سيرورة النظام السياسي في العراق، يعيد الانتهاك الدستوري نفسه الذي قام به عند تكليفه السيد عادل عبد المهدي في العام 2018 من دون تحديد الكتلة الاكثر عدداً التي رشحته كما يشترط الدستور وقرار المحكمة الاتحادية بهذا الشأن! وهو ما يفضح المناورات التي قام بها رئيس الجمهورية حين لم يلتزم بمدة الخمسة عشر يوما التي حددها الدستور لتكليف رئيس مجلس الوزراء الجديد بعد استقالة الحكومة، فقد استقالت حكومة عبد المهدي في 1 كانون الاول/ ديسمبر على استقالة الحكومة، وتم تكليف علاوي في 1 شباط/ فبراير 2020، أي بعد مرور أكثر من شهرين، حيث اتضح في ما بعد، أن السيد الرئيس لم يكن معترضا على طريقة الترشيح ومضمونه الذي خالف تطلعات ساحات الاحتجاج كما زعم هو، وإنما كان ينتظر اتفاق كتلتي سائرون والفتح على الشخص المرشح.
إن خارطة الطريق الوحيدة المتاحة لتجاوز الأزمة القائمة، هي إجبار الطبقة السياسية الحالية، رئيساً ومجلس نواب ومن خلفهما، على الإتيان برئيس مجلس وزراء «مستقل» تماماً
لا أحد يعرف طبيعة الحكومة المفترضة المكلفة، هل هي حكومة مؤقتة/ انتقالية أم حكومة كاملة الولاية جاءت بديلا عن حكومة السيد عادل عبد المهدي، ويمكن أن تستمر بولايتها إلى نهاية الدورة البرلمانية الحالية في العام 2022؟ فكتاب التكليف لم يشر مطلقا إلى طبيعتها، ولا يمكن التعويل على ما جاء في البرنامج المفترض الذي أعلنه السيد علاوي قبيل تكليفه حول «الانتخابات المبكرة»، لأن لا صلاحية حقيقية لرئيس مجلس الوزراء في ما يتعلق بحل مجلس النواب او الدعوة لانتخابات مبكرة، فالدستور العراقي لا يتيح لرئيس مجلس الوزراء سوى صلاحية الطلب بحل مجلس النواب، بشرط موافقة رئيس الجمهورية على ذلك، ولا يحل مجلس النواب إلا بتصويت الغالبية المطلقة لعدد أعضائه على الحل. وبالتالي لا يمكن التعاطي مع ما قاله رئيس مجلس الوزراء المكلف حول هذا الموضوع بجدية!
على أن الإشكالية الأهم، فيما نرى، هو حديث رئيس مجلس الوزراء المكلف، المتكرر، عن عدم توزير أي مرشح عن القوى السياسية، في طلب غير منطقي، وغير عقلاني! كان يمكن أن يكون هذا الطلب مقبولا لو أن السيد علاوي نفسه كان «مستقلا»، و «تكنوقراط»، تم تكليفه لتشكيل حكومة مؤقتة/ انتقالية/ تكنوقراط لإدارة انتخابات مبكرة متفق عليها بين القوى التي رشحته لهذا المنصب، وهذه المهمة! ولكن أن يأتي هو مرشحا عن قوى سياسية محددة، هما تحالفا سائرون والفتح، ثم يحاول أن يفرض على القوى السياسية الأخرى أن لا تكون طرفا في الحكومة، فهذا يعني عمليا أننا سنكون أمام حكومة «موظفين» تابعين لطرفين محددين فقط هما سائرون والفتح، ينفذون برنامجهما السياسي، وهذا لا يمكن أن يكون مقبولا تحت أي معيار، خاصة وأن أصوات كلا التحالفين لا تتجاوز 102 مقعد/ صوت في مجلس النواب، وفقا لنتائج الانتخابات، أي ما يمثل 31 في المئة فقط من مجلس النواب!
لا يستطيع أحد أن ينكر بنية الفساد، والبنية الزبائنية، التي تحكم الدولة في العراق اليوم، وان الوزارات، ومؤسسات الدولة المختلفة، إنما هي مصادر للاستثمار المالي، والاقتصادي، والسياسي، والانتخابي، على المستويين الشخصي والحزبي. ولكن هذه الحقيقة لا يمكن اعتمادها حجة لتمرير احتكار تحالفي سائرون والفتح للحكومة، عبر تمرير حكومة موظفين تنفذ البرنامج السياسي لهذين التحالفين. فهذان التحالفان هما جزء من هذه البنية نفسها، ورئيس مجلس الوزراء المكلف هو جزء منها أيضا، ومن السذاجة ان نصدق أن هذين الكيانين يمكن أن ينسلخا منها أو ينقلبا عليها.
لقد سمعنا كثيراً مقولة «حكومة الغالبية السياسية»، وكنا نقول ان هذه الخرافة لا يمكن ان تنطلي على أحد في بلد منقسم مثل العراق، لأن هذه المقولة لن تعني في النهاية سوى «احتكار» طرف محدد «تمثيل» الأطراف الأخرى! ويبدو أن هناك من يحاول تسويق الخرافة نفسها من خلال الحكومة الجديدة المفترضة، ولكن تحت «ذرائع» مختلفة هذه المرة. ففي النهاية لن تأتي الحكومة الجديدة المفترضة إلا وفق المعادلة نفسها التي حكمت الحكومات السابقة على مستوى التوزيع الهوياتي (شيعة وسنّة وكرد وأقليات)، ولكن من خلال احتكار مرشح سائرون والفتح تسمية هؤلاء الوزراء ضمن احتكاره للقرار السياسي والاقتصادي، خاصة في ظل تغول السلطة التنفيذية بالكامل على هذا القرار منذ حكومة المالكي الثانية.
لهذا ما زلنا نعتقد أن خارطة الطريق الوحيدة المتاحة لتجاوز الأزمة القائمة، هي إجبار الطبقة السياسية القائمة، رئيسا ومجلس نواب، ومن خلفهما، على الاتيان برئيس مجلس وزراء «مستقل» تماما، يدير حكومة مؤقتة/ انتقالية مشكلة من وزراء «مستقلين» تماما، ثم حل مجلس النواب، والسماح للحكومة الجديدة بوضع قانون انتخابات جديد لا «يفصَل» وفق مصالح القوى المهيمنة على مجلس النواب، كما هو القانون الحالي، ويعيد تشكيل مفوضية انتخابات جديدة لا تكون مجرد «ممثلية» للأحزاب، يسيطر عليها شخص واحد، كما هي حال مفوضية «القضاة» الحالية، وأخيراً إدارة انتخابات يضمن فيها الحد الادنى من معايير النزاهة والشفافية. وأي طريق آخر سيكون مجرد إعادة تدوير للاختلالات السابقة نفسها!
يحيى الكبيسي
القدس العربي