شهدنا، في الأشهر الأخيرة، تطوراتٍ غير متوقعة، أربكت مخططات “أوبك” في التحكّم في أسعار النفط. وكان الأول ضرب محطتي النفط في شرق المملكة العربية السعودية بصواريخ، قال الحوثيون إنهم أطلقوها من اليمن.
وقد أدت الانفجارات، التي وُصِفت بالدقة البالغة، إلى تقليل الإنتاج من النفط القابل للبيع إلى النصف، أو بمقدار خمسة ملايين برميل في اليوم. ونتج عن هذا الحدث رفع سعر النفط حتى وصل بالتدريج إلى 65 دولاراً لبرميل النفط في بحر الشمال. ولكن أثر الحدث سرعان ما زال، وعاد النفط الخام إلى الانخفاض.
والحدث الثاني كان انفجار عدوى فيروس “كورونا” في مدينة ووهان بالصين قبل أكثر من شهر، والذي أدّى انتشاره إلى الضغط على الصين، لتكون أكثر شفافية، وأحزم إدارةً، في كبح ذلك الوباء الذي قتل، حتى صباح الثلاثاء الماضي، ما يقارب ألف شخصٍ، غالبيتهم من الصينيين القاطنين في ووهان. وبالطبع، تراجع الطلب الصيني على النفط الخام، بسبب شلل حركة الإنتاج في ووهان، وتقاعسه في مدن صناعية كبرى، وتقليل حركة المركبات في الشوارع، لإبقاء الهواء نظيفاً، وأقل ضرراً على صحة المواطنين.
وفي وقتٍ استفادت منه صناعات الأدوية، والأقنعة الطبية، ومصانع الصابون المعقم، وشركات المحارم والمناديل الورقية، فإن صناعة النفط قد تضرّرت منه، حيث هبط سعر النفط من حوالي 59 دولاراً إلى أقل من 55 دولاراً للبرنت الخام. وهبط مزيج “أوبك” من 60 دولاراً للبرميل إلى ما يقارب 56 دولاراً، وسعر الخام الأميركي إلى أقل من 53 دولاراً.
وكانت “أوبك”، في اجتماعها أخيرا، قد قرّرت تخفيض كميات الإنتاج بمقدار نصف مليون برميل، بالإضافة إلى روسيا الاتحادية. وقد قامت المملكة العربية السعودية بخفض إنتاجها، مبادرة منها لتشجيع الآخرين، لكي يحذوا حذوها. واستجابت، حسب تقارير المراكز المراقبة لإنتاج النفط، كل دول مجلس التعاون الخليجي وروسيا. وحتى إن بعضها استجاب بأكثر مما طُلب منه. ولكن العراق وفنزويلا قد زادا إنتاجهما بما لا يزيد عن ربع مليون برميل لليوم الواحد. ومع هذا، هبط إنتاج النفط الخام من “أوبك” في شهر ديسمبر/كانون الأول عام 2019 إلى حوالي 28.3 مليون برميل في شهر يناير/كانون الثاني عام 2020.
وعلى الرغم من هذا كله، فإن أثر انتشار فيروس كورونا كان أقوى تأثيراً. وأدّى إلى الإيذاء، ليس بأسعار النفط فحسب، ولكن بسبب تراجع الطلب كذلك. ولهذا، فإن دخل الناتج عن الصادرات النفطية ضُرِب في جانبي السعر والكمية. ويقترح خبراء في “أوبك” ضرورة تخفيض كميات النفط تخفيضاً إضافيا ملزماً للجميع بمقدار 600 ألف برميل يومياً، أو أن يتراجع إنتاج “أوبك” إلى حوالي 28 مليون برميل يومياً، حيث يكون هذا الرقم أدنى رقمٍ يصل إليه إنتاج النفط من “أوبك” في العقد الأخير.
ولكن تخفيض الإنتاج كما هو مقترح لن يكون سهلاً، فهنالك دولٌ لا تريد الاستجابة، مثل العراق، وإيران، وفنزويلا. والأهم من هؤلاء هي روسيا الاتحادية، والتي تعتمد في دخلها وإيراداتها الحكومية على مواردها من بيع النفط الخام والغاز. وإذا فشلت هذه المحاولات، بينما بقي سعر النفط في حالة انخفاض، فستكون لذلك نتائج غير محمودة على اقتصادات دول النفط.
وفي المقابل، يشهد الاقتصاد الأميركي، الذي بات قادراً على سد حاجاته المحلية من النفط الخام ومشتقاته، وعلى التصدير فوق ذلك، نمواً محترماً (3.5%)، قياساً بمعدلات النمو في العقدين الماضيين، ويشهد طفرة في التوظيف، مما قلل من نسبة البطالة إلى أدنى من 4% من دون ارتفاع يذكر في مستوى الأسعار. وقد تعلّمنا أن كلفة تخفيض نسب البطالة في أي دولة، حسب منحنى فيليبس (Phillips Curve) يتحقق بكلفةٍ على المجتمع، تتمثل في ارتفاع المستوى العام للأسعار. وارتفاع الأسعار يكون في العادة مصحوباً بارتفاع في أسعار الفوائد.
ولكن هذا الحديث النظري لم يتحقق في منتصف سبعينيات القرن الماضي، وحتى منتصف الثمانينيات، حينما ابتُلي العالم بظاهرة الكساد التضخمي. وهي دورة اقتصادية قلّما تحدُث، لأنها تجمع بين ارتفاع الأسعار بنسب عالية في وقتٍ تتسع فيه نسب البطالة. وعندما يسير التضخم والبطالة في اتجاه واحد، فإن التصدّي لهذه المشكلة بالأدوات المالية والنقدية التقليدية يكون محدود النجاعة والفاعلية.
والآن، يشهد الاقتصاد الأميركي درجة عالية من استقرار الأسعار، في وقتٍ تتراجع فيه نسب البطالة. وبمعنى آخر، فهو يشهد دورةً تكاد تكون معاكسة تماماً للدورة التي شهدها العالم مباشرة بعد هزة النفط في عام 1974 والعقد الذي تلاه، فهل هذه حالة مستقرّة للاقتصاد الأميركي؟
لقد قامت لجنة السوق المفتوح الفيدرالية، أو الـ (FOMC) باقتراح تخفيض أسعار الخصم (سعر الفائدة الذي يتقاضاه البنك الاحتياطي الأميركي من المصارف) مرتين في نهاية عام 2019، وليس متوقعا أن تقدم أي اقتراح هذا العام برفع أسعار الفوائد، بينما نسبت هذه اللجنة برفع أسعار الخصم مرتين عام 2018.
وهكذا بات من الصعب التكهن بالتطورات في أكبر اقتصادين في العالم. وعندما نرى أن معدلات النمو في الصين، والهند، ومعظم الدول الأوروبية، في حالة تراجع، وعندما يُصدر صندوق النقد الدولي دراسةً تتنبأ بنضوب أرصدة دول مجلس التعاون الخليجي المقدرة بتريليون دولار عام 2034، فإن الاضطراب سيسود في أسواق العملات، وفي أسواق البورصات العالمية.
وهذا كله يدفع الناس أصحاب الفوائض المالية، وفي بنوك مركزية كثيرة، إلى البحث عن رصيدٍ لا يدر دخلاً، ولكنه يحفظ قيمته. وهذا هو الذهب، والذي وصل سعره إلى 1570 دولاراً يوم الاثنين الماضي، ومن المتوقع أن يرتفع إلى حدود 1600 دولار للأونصة الواحدة من ذهب “تروي” الصافي.
كلما ازدادت الظروف تعقيداً، وعجز الناس عن قراءة المستقبل القريب، لاذوا إلى الذهب، لثبات جدوى التخزين به في مثل هذه الظروف.
جواد العناني
العربي الجديد