لم تكن مشاريع الاستيطان والسيطرة على الضفة الغربية وتهويد المدينة المقدسة من بنات أفكار اليمين الصهيوني فقط وفي السياق الزماني لصعود بنيامين نتنياهو وتحالف أحزاب اليمين بكافة تلوناتها منذ عام 2009، بل هي مخططات عابرة للأحزاب والحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، ومشترك أساسي يُجمع عليه كافة رؤساء الوزراء بغض النظر عن خلفياتهم الأيديولوجية وتوجهاتهم السياسية، وكل المخططات والمشاريع الاستيطانية منذ الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية والقدس قد تختلف في الشكل والديباجيات غير أنها تتفق في المضمون، بفكرة جوهرية وهدف استراتيجي يرنو إلى السيطرة على أكثر من نصف الضفة الغربية؛ والتي تشمل المرتفعات والتلال والعقد الاستراتيجية، والمناطق الخصبة، وأحواض المياه الرئيسية، وحشر الفلسطينيين في أضيق مساحة جغرافية ممكنة، والسيطرة على المدينة المقدسة استيطانياً وديموغرافياً وتهويد وأسرلة الطابع العام العربي والإسلامي التاريخي لمدينة القدس.
ولم تتغير هذه الاستراتيجية ولم تتبدل، مع تغير في وتيرة تطبيقها على أرض الواقع في بعض المراحل، رغم مشاريع التسوية، والاتفاقيات التي وقعت بين الكيان الصهيوني ومنظمة التحرير وأهمها اتفاق أوسلو وواي ريفر وخطة زيني، ومفاوضات طابا، ومؤتمر أنابوليس، وما صدر من قرارات في الجمعية العامة للأمم المتحدة ومؤسسات أممية أخرى، والتقرير الاستشاري لمحكمة العدل الدولية ببطلان قانونية جدار الفصل العنصري، ولن يكون إعلان المدعية العامة لمحكمة الجنايات الدولية فاتو بنسودا نيتها فتح تحقيق جنائي في جرائم صهيونية في الأراضي المحتلة أفضل من سابقيه في تغيير السلوك الاستيطاني والتهويدي الإسرائيلي.
فكل مخططات الاستيطان والضم والسيطرة كانت تسير بعيداً عن أي اعتبارات سياسية أو مستجدات خارجية، فخطة وزير العدل الصهيوني يغال آلون بعد حرب عام 1967 مباشرة للتسوية ومستقبل المناطق التي خضعت للاحتلال بعد الحرب كانت تحمل في أحشائها بذور المشروع الصهيوني الاستيطاني القائم الآن في الضفة الغربية، فقد نصت الخطة على تحديد حدود الكيان الشرقية بنهر الأردن والبحر الميت مع ضم منطقة بعمق 15 كم غرب نهر الأردن للكيان، وتجنب ضم السكان العرب حتى لو تم تهجيرهم، والسيطرة على المناطق الاستراتيجية في الضفة الغربية، وإنشاء تجمعات استيطانية في المناطق الحاكمة، وإقامة حكم ذاتي فلسطيني بصلاحيات محدودة في الضفة، ثم مخطط دروبلس للاستيطان في الضفة الغربية 1978، لإنشاء 70 مستوطنة خلال عشر سنوات، ورفع عدد المستوطنين في الضفة الغربية عام 1986 إلى 100 ألف، وبعدها مشاريع شارون الاستيطانية بعد عام 1990، المعروفة باسم “خطة السبع نجوم” لإقامة سلسلة متواصلة من المستوطنات على امتداد خط الرابع من حزيران 1967، وإقامة ثلاثة مراكز استيطانية كبرى في الضفة الغربية، ثم خطة نتنياهو – آلون المعدلة لعام 1997 .
وبعد حوالي 52 عاماً من خطة آلون للتسوية، وبعد ربع قرن من اتفاق أوسلو، وعشرات القرارات الأممية ضد الاستيطان والسلوك العدواني الصهيوني، وربما مئات جولات المفاوضات، فإن مصير الضفة الغربية والقدس وحالها مع مشاريع الاستيطان والتهويد قد حُسم، فقد وصل عدد المستوطنين في الضفة الغربية ومدينة القدس مع نهاية عام 2019 إلى نحو 720 ألف مستوطن، منهم حوالي 450 ألفاً في الضفة الغربية، يتوزعون على حوالي 200 مستوطنة وأكثر من 220 بؤرة استيطانية، ويسيطر الاحتلال عملياً ودون إعلان رسمي على أكثر من 60 % من مساحة الضفة الغربية؛ 11.5 % مستوطنات ومحيطها، 12% يقتطعها جدار الفصل العنصري، 18 % مناطق عسكرية ومحميات طبيعية يمنع على الفلسطينيين دخولها، أما ما تبقى من الضفة الغربية والتي تتراوح مساحتها بين 38-40% فهي مناطق فلسطينية ذات كثافة سكانية في نطاق جغرافي ضيق، وعلى عكس التجمعات الاستيطانية المتناثرة في الضفة الغربية والتي يرتبط بعضها ببعض جغرافياً أو من خلال شبكة مواصلات متطورة تشمل طرقاً التفافية وجسوراً وأنفاقاً، فإن المناطق الفلسطينية تفتقر إلى التواصل، وتتوزع بين كتل سكانية رئيسية في شمال ووسط وجنوب الضفة، وبين قرى وبلدات يفصلها عن بعضها، وعن الكتل الكبرى، الطرق الالتفافية والمستوطنات والحواجز العسكرية.
حتى خلال الدراسة الأولية لفرضية ارتكاب إسرائيل جرائم حرب ومخالفات جنائية في المناطق المحتلة التي أجرتها محكمة الجنايات والتي استغرقت خمس سنوات، لم تتراجع المشاريع الاستيطانية في الضفة والقدس، بل شهدت تصعيداً خاصة خلال العامين السابقين.
وفي تحدٍ واضح لقرار المدعية العامة للمحكمة بالشروع في فحص إمكانية إطلاق تحقيق جنائي، أعلن وزير الأمن الإسرائيلي نفتالي بينيت رزمة من الإجراءات في الضفة الغربية في شهري كانون الأول/ ديسمبر 2019 وكانون الثاني/ يناير 2020 تمهد الطريق للضم التدريجي لحوالي 60% من مساحة الضفة الغربية:
– الإيعاز بدراسة تسجيل الأراضي في المنطقة (C) في سجل الأراضي في وزارة القضاء الإسرائيلية، بدلا من تسجيلها في الإدارة المدنية، التي يديرها جيش الاحتلال في الضفة الغربية، أي التعامل مع الأراضي الفلسطينية كما يتعامل الإسرائيليون مع الأراضي التي احتلت عام 1948.
– إنشاء سبع محميات طبيعية جديدة، وتوسيع اثنتي عشرة محمية أخرى مقامة على قمم الجبال الواقعة غربي البحر الميت في الضفة الغربية، وهو ما سيؤدي إلى مصادرة عشرات آلاف الدونمات مما تبقى من أراضي مناطق (C) التي يسيطر عليها الاحتلال.
– قرار نفتالي بينيت بإقامة حي استيطاني جديد في منطقة سوق الجملة (الحسبة) في البلدة القديمة من مدينة الخليل، بهدف خلق تواصل جغرافي بين البؤر الاستيطانية والحرم الابراهيمي.
وسبق ذلك إعلان رئيس الوزراء نتنياهو في أيلول/ سبتمبر 2019 عزمه ضم غور الأردن وشمال البحر الميت والتي تشكل حوالي 28% من مساحة الضفة الغربية الكلية، وعزمه أيضاً ضم مناطق استراتيجية وحيوية إلى “السيادة الإسرائيلية” لم يحددها.
وبالتالي فإن مخططات الاستيطان والضم وفرض المشروع التوراتي الصهيوني على الضفة والقدس لن تتأثر بأي مواقف أو إجراءات أو قرارات خارجية حتى لو باشرت محكمة الجنائية الدولية تحقيقاً شاملاً في انتهاكات إسرائيل، فهي ستسير قدماً، ولكن ربما بوتيرة أسرع في سياق التنافس بين اليمين المتطرف العلماني، وبين اليمين الديني الأشد تطرفاً، وفي ظل فائض التطرف لدى المجتمع والنخب الإسرائيلية، وهي بذلك ستسعى إلى حسم مسألة الضم والسيطرة على الضفة والقدس خلال السنوات القليلة المقبلة.
أكرم شخبير
العربي الجديد