تثبت التطورات الأخيرة أن الدولة التركية لا تتردد في خوض أي حرب حفاظاً على أمنها القومي. القيادة السياسية تعتبر أنها كانت مجبرة على اتخاذ قرار الحرب دفاعاً عن أراضيها وحدودها، في حين ترى أطراف خارجية أن هذه المبررات غير مقنعة.
رأي هذه الأطراف لم يكن مهماً كثيراً، بالنسبة لمتخذ القرار التركي، الذي أثبت أنه يتحرك وفق تقديراته الخاصة، لكن تجاهل تلك الآراء أدى لحدوث الكثير من الاختلافات بين تركيا وجيرانها، كما أدى لتوتر علاقتها مع كثير من الدول ممن كانت تعتبر أن التدخلات العسكرية في هذه المنطقة من العالم هو أمر يخصها وحدها.
وفقاً لهذا وخلال العقد المنصرم، توترت علاقة تركيا بالولايات المتحدة، كما توترت علاقتها بروسيا، التي تقاطعت مصالحها معها في أكثر من مكان، وقد ظلت العلاقة مع هذه الأطراف وغيرها متأرجحة ما بين التصعيد والتهدئة.
منذ وقت يسبق بكثير التداعيات الإقليمية الحالية، كانت تركيا تولي اهتماماً كبيراً بجيشها وصناعاتها الدفاعية، وفق ما كانت تفرضه المخاطر والمهددات الماثلة، التي على رأسها المجموعات الإرهابية والتهديدات الحدودية الانفصالية. في لحظات الصراع تلك كانت كثيراً ما تتم مقارنة الجيش التركي بغيره. كان الكثير من الخبراء يضعون قوات تركيا المسلحة في مرتبة متقدمة، لعدة أسباب تتمركز حول كون هذه الدولة جزءاً من التحالف الأطلسي، الذي يظل رغم كل انتقاد الحلف الأهم على مستوى العالم. ليس ذلك فقط، ولكن لكون الجيش التركي أحد أهم مكونات ذلك الحلف من ناحية العدد والعتاد، لدرجة أن الغربيين، وإن كانوا يعترضون على دخول تركيا لمنظومة الاتحاد الأوروبي، إلا أنهم يبدون متفقين على ضرورة بقائها ضمن الحلف.
قياس القوة العسكرية من خلال التحالفات العسكرية، أو من خلال الحصر التقليدي للعدة والعتاد مهم، لكن هذا ليس المحدد الوحيد للقوة العسكرية، وللتنبؤ بربح طرف ما لمعركة مقبلة، حيث يخبرنا تاريخ الحروب أن العدة لم تكن طوال الوقت العامل الوحيد لحسم المعارك وكسب الانتصارات، ولعل في تاريخ الفتوحات الإسلامية، وفي إخضاع مجموعة قليلة من العرب والبدو لأكبر امبراطوريات العالم القديم، أكبر دليل.
لقياس موضوعي للقدرات العسكرية فإنه يجب تقسيم الدول إلى ثلاثة أقسام رئيسة: دول عسكرية، وهي كلمة نستخدمها هنا، ويدخل في نطاقها كل دولة يتعاظم فيها دور الجيش على حساب الحياة المدنية، بشكل يجعله يتحكم في السوق والسياسة، ويكون له رأي في العلاقات الدولية ووسائل الإعلام، ومثال ذلك الكثير من الأنظمة الشمولية، بل تركيا نفسها في زمن الاضطرابات والانقلابات قبل بدء القرن الحالي.
القسم الثاني، تلك الدول التي تعمد إلى التقليل من شأن الجيش، إما بحجة محاربة المظاهر العسكرية للدولة، أو لانتفاء التهديدات، أو لوجود ظهير عسكري خارجي يمكن اللجوء إليه وقت الضرورة. وللعلم، فإن هذا الوضع ليس نادراً، فهناك 31 دولة على مستوى العالم لا تملك جيشاً، ويستعين أغلبها بقوات الشرطة لتسيير المهام العسكرية، التي لا بد منها كحفظ الحدود ومراقبتها.
أما القسم الثالث فهو الدول التي يلعب فيها الجيش دوره الطبيعي كذراع من أذرع الدولة، فلا هو بدور متعاظم، بحيث يبتلعها، ولا هو مهمش داخلها. يرتبط هذا بلا شك بسياق الديمقراطية، ونظام الحكم الرشيد الذي تتوزع فيه المسؤوليات بشكل دقيق بين الشعب من جهة، والمكونات العسكرية والمدنية الحاكمة من جهة أخرى، بل يدخل في سياق تنظيم المسؤوليات أيضاً، المعارضة التي تعمل، رغم معارضتها، في تناغم مع الدولة، فلا تحاول تفكيكها ولا محاربة نظامها السياسي، ولا تتلاعب بأمنها طلباً في إضعاف حكومة، أو طمعاً في الوصول إلى كرسي الحكم.
النصر يكون في الغالب حليفا للدول، التي لا يحارب فيها الجيش بمعزل عن شعبه، وتكون التركيبة الاجتماعية الداخلية موحدة، في سبيل غاية وطنية جامعة
بالإضافة إلى عامل العدة والعتاد، الذي نكرر مرة أخرى ألا بديل عنه، فإن النصر يكون في الغالب حليفاً لدول القسم الثالث، التي لا يحارب فيها الجيش بمعزل عن شعبه، وتكون فيها التركيبة الاجتماعية الداخلية موحدة، في سبيل غاية وطنية جامعة تعلم أنها مشتركة بين الجميع، وليست مجرد أجندة لجهة أو حرب عبثية فرضها الارتجال أو حب المغامرة.
لم يكن وصول تركيا لهذه الحالة من تناغم السلطات سهلاً، بل وجب العمل باتزان ومرونة على الحد من تغول الجيش وامتصاصه الكامل للمجال الاجتماعي والسياسي، لكن باحترام ومن دون التقليل من مكانته أو وظيفته، أو دوره الأساسي، المتمثل في حماية الشعب ومؤسساته وديمقراطيته، كما كان يجب الاستعداد في الوقت ذاته، للهجمات المضادة التي يمكن للعسكريين توجيهها لحفظ مكانتهم المكتسبة وعلى رأسها استراتيجيات قلب الطاولة، كما حدث في المحاولة الانقلابية الفاشلة الأخيرة. تاريخياً، فإن هزائم الجيش العثماني، بدأت حين ظهر فيه التنازع والتنافس والخيانات، التي كانت السبب الرئيس في فشل حصار فيينا 1683، الذي مهد الطريق للانسحاب العثماني والإسلامي، من الأراضي الأوروبية، وتقزيم دور ومساحة «الإمبراطورية». اليوم، وبخلاف الحصر التقليدي للآليات والمعدات، فإنه يمكن القول إن لدى الجيش التركي الكثير مما يميزه. يمكن هنا ضرب مثال بقصة استخدام طائرات «الدرون»، الطائرة التي تعمل من دون طيار، ويُتحكم فيها عن بعد، ودخول هذا النوع من الطائرات كسلاح فعال ضمن أسلحة الجيش التركي، لأعمال استهداف العدو أو للمراقبة وللتأمين.
في عام 2001 نفذت الولايات المتحدة هجوماً على أفغانستان، باستخدام الطائرة المسيّرة لأول مرة. كان ذلك حدثاً عسكرياً فريداً من نوعه لجهة انعدام المخاطر، حينما يتعلق الأمر بشأن الضحايا من العسكريين، فبكبسة زر قد يتواجد صاحبها على بعد آلاف الأميال، يمكن توجيه ضربات استراتيجية موجعة. لفترة تمتد لعقد من الزمان أو أكثر، كان الأمريكيون يطورون هذه الطائرات وهم يستمتعون بكونهم الوحيدين على الساحة. فكرت تركيا في الدخول في مجال الطائرات المسيّرة منذ وقت طويل، لكن صناعة «الدرون» المقاتلة بدأت بداية حقيقية عام 2005 بحلم سلجوق بيرقدار، طالب الهندسة التكنولوجية، بصنع طائرة من هذا النوع كإضافة نوعية لمجهودات بلاده في حقل الصناعات الدفاعية. أخذ الأمر بعض الوقت حتى تمكن بيرقدار، بعمر 26 عاماً، من الحصول على فرصة أولى عام 2005 لاستعراض منتجه أمام القيادات العسكرية، التي كانت تحتاج فعلاً لهذه الطائرة، لدرجة أنها فكرت في استيرادها من الدول القليلة المصدرة. قدم ذلك الطالب للجيش التركي خدمة كبيرة ردت عليها الدولة بدورها بتبنيه ومنحه فرصة لتطوير اختراعه أكثر، بحيث يكون قادراً على تحمل مهام قتالية وهو ما تحقق فعلاً عام 2015، أما بحلول عام 2019 فأصبحت الطائرة جزءاً أساسياً من المنظومة الدفاعية الجوية.
هذه القصة توضح الانسجام بين المدني والعسكري، كما توضح كيف تحرص الدول الناهضة على الاستفادة من المواهب، ومن مشاريع التخرج، التي يجب أن يكون الغرض الأول منها، تقديم الحلول المبتكرة والجديدة في أي مجال من مجالات الحياة، لا أن تكون مجرد أوراق زائدة متكدسة لا يلتفت إليها أحد، ولا غرض منها سوى الحصول على شهادة إضافية. ذلك هو ما أوصل الدرون التركية، «بيرقدار»، للمرتبة المتقدمة التي تحتلها حالياً، وذلك هو ما يضخ دماء متجددة في بنية الجيش التركي.
د. مدى الفاتح
القدس العربي