بغض النظر عن إمكانية تمرير حكومة محمد توفيق علاوي برلمانياً في العراق من عدمه، وبغض النظر عن طبيعة هذه الحكومة، والصراعات التي ستجد نفسها عالقة فيها منذ يومها الأول؛ فإن ثمّة صراعا آخر يجري خلف الكواليس تارة، وتارة أخرى أمامها، يتلخص في رغبة إيرانية ملحّة في انسحابٍ أميركي كامل من العراق، هذا الصراع الذي وضعته بعض الكتل السياسية شرطاً أمام علاوي لتمرير حكومته برلمانياً.
حتى قبل اغتيال الولايات المتحدة قائد فيلق القدس الإيراني، الجنرال قاسم سليماني قرب مطار بغداد مطلع الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني الماضي)، كانت إيران تعلنها صراحة أنها مع الانسحاب الأميركي من العراق، هذه الرغبة التي كثيراً ما كانت كتل سياسية عراقية معروفة بقربها من إيران تعلنها من وقت إلى آخر، حتى جاء اغتيال سليماني، ليشكل رافعاً أكبر لمثل هذه المطالبة التي لم تجد إيران أفضل من هذه الحادثة فرصة لاستثمارها للضغط باتجاه سحب القوات الأميركية من العراق.
في خلفية المشهد، ما كانت هذه القوى السياسية الحاكمة والمتحكمة بالمشهد العراقي اليوم أن يكون لها وجود أو أثر لولا الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003 وإسقاطه نظامه. وبالمثل، ما كان لإيران أن تكون لها أية سلطة في العراق، أو اختياراته، لولا هذا الاحتلال البغيض،
“وفر داعش فرصة للولايات المتحدة للعودة إلى العراق بعد عام 2014″ولولا الانسحاب الأميركي الغبي الذي نفذه الرئيس السابق، باراك أوباما، إيفاءً بوعوده الانتخابية. وقد منح هذا الانسحاب الذي تم مطلع عام 2011 إيران الفرصة الذهبية لملء الفراغ الكبير الذي تركته تلك القوات المنسحبة، وما تبعه من هيمنةٍ إيرانية شبه مطلقة على القرار السياسي والسيادي للعراق، فضلاً عن سيطرتها على مفاصل العراق الاقتصادية والتجارية، بالإضافة إلى السياسية.
وفر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) فرصة للولايات المتحدة للعودة إلى العراق بعد عام 2014؛ فرصة لا يبدو أنها كانت كاملة ومثالية، فقد كانت إيران قد توغلت وتغلغلت بما لا يقبل أن يشاركها أحد في حصتها الكبرى من كعكة العراق، وبعد انتهاء “داعش” على الأرض، عاد الحديث عن القوات الأميركية في العراق. واليوم؛ تعيش بغداد، بمختلف أطيافها وأطرافها السياسية، صراعاً بين من يقع تحت ضغط إيراني لتسريع الانسحاب ومن يقع تحت مخاوف شتى تعيد إليه شريط السطوة الإيرانية، عبر مليشياتها المختلفة على كل مفاصل الحياة اليومية للعراق، فيرى في بقاء تلك القوات ضرورة للعراق واستقراره، وحتى لا تكون فيه
“الثورة قد تشكل عامل ضغط على مختلف الأطراف التي ترغب في مغادرة القوات الأميركية والأخرى التي ترغب في بقائها”السطوة أحادية إيرانية.
يأتي هذا الصراع في وقتٍ تعيش فيه بغداد ومدن الجنوب الأخرى ثورة شعبية شبابية عارمة أتمت أربعة أشهر من دون أن تتوقف، على الرغم من كل أساليب القمع التي مورست وتمارس بحقها من السلطة وأحزابها، ما يعني أن هذه الثورة قد تشكل عامل ضغط على مختلف الأطراف التي ترغب في مغادرة القوات الأميركية والأخرى التي ترغب في بقائها. ولا تبدو الولايات المتحدة أنها ترغب، هذه المرة، في مغادرة العراق، فهي وإن كانت تخشى أن تكون تلك القوات لعمليات مسلحة تنفذها المليشيات المرتبطة بإيران، فإنها تدرك جيداً أن العراق يمرّ بمرحلة انتقالية قد تغير تفاصيل كثيرة فيه على شتى الأصعدة، بفعل ثورة الشباب، تغيير قد يؤثر على مجمل خريطة المنطقة. وبالتالي، لا تريد خروجاً يشبه الهروب الآن. وفي المقابل؛ ستبقى الكرامة الإيرانية تعاني من جرح غائر، إذا فشلت في إخراج القوات الأميركية من العراق، بعد عملية الاغتيال الكبير والمفاجئ لأبرز قادتها، قاسم سليماني.
لن تكون المنافسة سهلة، وهي قد تطول، وقد تستخدم فيها أوراق سياسية واقتصادية كثيرة، وحتى عسكرية، إن اقتضى الأمر، فطالما أن العراق، بحكومته الجديدة وبرلمانه الحالي، لا
“ترامب أعلن مرات عدم رغبته في الانسحاب من العراق، ولكن الصحيح أيضاً أنه يمر بسنة انتخابية قد تُجبره على اتخاذ قراراتٍ قاسية”يملك قراره واختياراته، ستبقى الأمور قابلةً لمزيد من التصعيد والمفاجآت.
صحيح أن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أعلن مرات عدم رغبته في الانسحاب من العراق، ولكن الصحيح أيضاً أنه يمر بسنة انتخابية قد تُجبره على اتخاذ قراراتٍ قاسية، وصحيحٌ أن إيران تملك أوراق لعب أكثر في العراق من أميركا، إلا أن الصحيح أيضاً أنها تعاني من العقوبات الاقتصادية الأميركية القاسية. وما بين معاناتي طهران وواشنطن وخياراتهما، تبقى معاناة بغداد الأكثر ألماً وقسوة، فهي لا تملك إلا أن تكون ملعباً لكليهما، وبالتالي فإن حكومة علاوي الجديدة ستكون قاب قوسين أو أدنى من السقوط، حتى قبل أن تبدأ بفعل التقاطعات الكبيرة بين مختلف القوى السياسية، فضلاً عن التقاطعات الدولية بشأن ملفات عدة.
الخشية كل الخشية أن يتحوّل الصراع السياسي بشأن وجود القوات الأميركية وانسحابها من العراق إلى صراع خشن، خصوصاً أن لكل طرف من أطراف اللعبة أدواته المسلحة، حينها يمكن أن ينزلق العراق إلى ما هو أبعد من الحرب، وربما نصل إلى ما يخشاه الجميع، التقسيم.
إياد الدليمي
العربي الجديد