أمريكا ترغب في أن يعود إلى فنزويلا شخص شبيه بالديكتاتور الفاسد خوان فيسنتي غوميز، أو ماركوس بيريز خيمينيز، الأكثر منه وحشية ونهبا وفسادا، الذي نال وسام الاستحقاق من أيزنهاور تقديرا «لسياسته الحكيمة»، التي سهّلت انتشار السيطرة الأمريكية على الحقول النفطية الفنزويلية.
وقد فتح غوميز أبواب الدولة على مصاريعها لشركات النفط الأمريكية، وأعاق نظيرتها البريطانية تحت توجيه من واشنطن. وسيطرت بفضله صناعة النفط الأمريكية على اقتصاد فنزويلا، التي كانت أكبر مصدّر للنفط حتى عام 1970، قبل أن يتمّ اكتشاف البترول في السعودية وإيران، وتتمكّن شركات الولايات المتحدة من السيطرة على مجال الإنتاج الطاقي في المنطقة. وأن يقع الشرق الأوسط في ما وقعت فيه أمريكا اللاتينية. كان هدف واشنطن لتركيز الاحتياطات النفطية الكبرى، باعتباره «أغلى الجوائز الاقتصادية في عالم الاستثمارات الخارجية».
لقد أصبح النظام العالمي اليوم شكلا من أشكال «ميركانتلية الشركات» على حدّ توصيف نعّوم تشومسكي، وفي هذا النظام العالمي صارت «الدول الجائعة» ودول العالم الثالث ملزمة بمراقبة مبادئ الليبرالية الجديدة، التي تتهرّب من الالتزام بها الدول الكبرى، على اعتبار أنّها صُمّمت ببراعة التفاعلات والمخطّطات التجارية، داخل إطار من العولمة الليبرالية، حسب حاجات السلطة والأرباح والهيمنة الاقتصادية والتجارية والمالية. ومبدأ «مونرو» حافظت بفضله الولايات المتحدة على مكان المقدّمة في أمريكا اللاتينية، وتمّ تنفيذ هذه السياسة أمام بريطانيا تحديدا التي شجّعها دونالد ترامب للخروج من الاتّحاد الأوروبي، ويعدها باتّفاقيات تجارية ثنائية ضخمة، في الوقت الذي كان همّ أمريكا إثر الحرب العالمية الثانية، وطوال الحرب الباردة، وما تلا سقوط الاتّحاد السوفييتي، الاحتكام إلى مبدأ السوق الحرّة، ولكنّه مبدأ يفتح الأسواق أمام الشركات الاستثمارية الأمريكية، ويغلقها أمام الآخرين. والسياسة النفطية للولايات المتحدة، تمكّنت من بسط استراتيجية الباب المغلق في الشرق الأوسط، عقدين من الزمن، على نحو ما كانت عليه في أمريكا الوسطى واللاتينية.
ومدّ المخطّطون الأمريكيون مبدأ مونرو إلى الشرق الأوسط، لأجل الوصول إلى نفط الخليج وإقصاء الشركات البريطانية، ولأجل ذلك قدّموا لابن سعود دعما أدبيا مبكّرا، واعتبروا المملكة من «الحلفاء الديمقراطيين» وأنّ الدفاع عن السعودية أمر حيويّ في الدفاع عن الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا الدعم الأدبي والرعاية الأمريكية مكّنا واشنطن من استنزاف ثروات السعودية لتدعيم القوة الاقتصادية والمالية الأمريكية، ضمن النظام العالمي الجديد الذي طمحت في قيادته منذ نهاية الحرب الكونية الثانية. وسادت الآمال بعد الحربين المدمّرتين بزوال الصراعات القومية نتيجة انتشار الديمقراطية ودولة الرفاه الاجتماعي وانتصار حقّ تقرير المصير، أو ما أريد له أن يًقدّم ضمن أطر الدعاية، وزيف القيم الليبرالية التي تقودها أمريكا. وتحمّس البعض إلى حدّ اعتبار أنّ أدبيات الاستقلال، ومن ثمّة العولمة عبّرت عن جدل مفاده أنّنا نسير في اتّجاه عالم أكثر توحّدا وتكافلا، يمكن أن تُصبح فيه الخلافات القومية و»دولة الأمة» أقلّ هيمنة وأقلّ ضرورة. ولكن مع انتهاء الحرب الباردة طفا على السطح مجدّدا الاختلاف الثقافي والتناحر الحضاري بين الغرب والشرق وكان محفوفا بالريبة الثقافية التي يبرّرها الخطاب العالمي السائد في العصر الحديث، وهو نتاج الحضارة الغربية، التي تتمركز حول ذاتها. وقد عبّر عن ذلك صموئيل هنتنغتون بأنّ المصدر الأساسي للنزاعات في هذا العالم الجديد لن يكون مصدرا أيديولوجيا، أو اقتصاديا في المحلّ الأوّل، فالانقسامات الكبرى بين البشر ستكون ثقافية، والمصدر المسيطر للنزاع سيكون ثقافيا، وسيسيطر الصدام بين الحضارات على السياسات الدولية، ذلك أنّ الخطوط الفاصلة بين الحضارات ستكون هي خطوط المعارك في المستقبل، وسيكون النزاع بين الحضارات هو المرحلة الأخيرة في تطوّر النزاع في العالم الحديث.
استراتيجية المساعدات تُكبّل الكثير من الدول، وتصادر قرارها السيادي وتجعلها تحت رحمة الدّول المانحة
ويتجلّى هذا المسار كأحد العناوين الكبرى لهذا القرن، في الوقت الذي نشهد فيه تقلّص العلاقات الدبلوماسية وتوتّرها، إضافة إلى استعراض القوّة والسباق نحو التسلّح، بأحدث المنظومات الدفاعية والهجومية. وهو مشهد عالمي يدفع باتّجاه المزيد من تأزّم العلاقات الدّولية ويركن إلى سياسات توسّعية، همّها المضيّ قدما في منطق عزل الشعوب عن بعضها بعضا، وتفكيك نسيجها القومي، وإبقائها في حالة الجهل والتخلّف، وفق منهج استعماري قديم بطرق الاحتواء والتبعية. وعملهم الإجرامي مكشوف الملامح منذ بدايات إشعالهم الحروب في الشرق الأوسط عامّة، كما في أفغانستان وجورجيا ومقدونيا والشيشان ويوغسلافيا وغيرها من بؤر التوتّر. وتعلّلهم بحيازة العراق أسلحة الدّمار الشامل، كان العبث بعينه وأبرز مظاهر انتهاك ما يسمّى الشرعية الدولية، لمصلحة دعاة العنف وانعدام القانون من «الدول المارقة»، التي لا تلتزم بأيّ قرارات أمميّة، ولا تحترم النصوص والمعاهدات.
لا يمكن للقوّة العسكرية السياسية وما تختزنه من عداء حضاريّ ثقافيّ أن تنشر على الإطلاق نظاما يدعم السلام، أو تدفع باتجاه أمان عالميّ، بقدر ما تُساهم في مزيد من النزاعات والاضطرابات، وتبحث عن إدارة أزمات لصالحها. وهذا النهج المتّبع لن يقدّم للحضارة الإنسانية مشتركا يجمعها، بل يكرّس البربرية والعنف، ويفاقم منسوب العداء والكراهية. ولم تتخلّص في ما يبدو سياسة الولايات المتّحدة من جنون العظمة، الذي أصيبت به بعد أحداث 11 سبتمبر الذي كان له الأثر الأكبر في تدمير الأسس السياسية والأيديولوجية لتأثيرها السّابق، الذي كان مبنيّا على الهيمنة، وأوصد أمامها أبواب تقوية تراث حقبة الحرب الباردة، ولم يُخلّف لها سوى قوّة عسكرية، لم يكن لها أساس منطقي في التعامل مع الأزمات المتواترة والنزاعات المحتدمة في كثير من مناطق العالم على امتداد عقود متواصلة. وبقيادتها للمعسكر الرأسمالي تواصل العمل على إلغاء «الإقليمية» بصفتها مبدأ تنظيم المجتمع ونوازعه الثقافية، وبفعل الرأسمالية الشاملة وأيديولوجيا الليبرالية الجديدة، أصبحت المجتمعات معرّضة لموجات مُتقلّبة، ولقوى لا تستطيع التحكّم فيها، ولا سلطة لها عليها. وعجزت الدولة القُطرية ومؤسّساتها في التّجاوب مع معطى العولمة ورهاناتها، وتحدّيات السوق والتقنية، ولن تتغيّر معادلة التبعية، ما دامت دول معيّنة تحت رحمة الدول المنتجة للمواد الأوّلية، وجميع التكنولوجيات والتقنيات الحديثة، ناهيك من استراتيجية المساعدات التي تُكبّل الكثير من الدول، وتصادر قرارها السيادي وتجعلها تحت رحمة الدّول المانحة .
لطفي العبيدي
القدس العربي