أحد أهم أسباب التقلبات الشديدة في أسواق النفط تاريخياً هو عدم إدراك حكومات الدول المستهلكة مدى الترابط والتداخل والتكامل بين أمن الطاقة في بلادها والوضع الاقتصادي والسياسي في الدول المنتجة للنفط.
وفشلت وكالة الطاقة الدولية، منذ تأسيسها عام 1974، في أهم وظيفة لها، وهي تعزيز أمن الطاقة في الدول الأعضاء، ودليل ذلك توالي النكبات على هذه الدول وحدوث عجز في إمدادات الطاقة، ليس في مجال النفط فقط، بل في كل المجالات، بما في ذلك الكهرباء، رغم إنفاق الأعضاء مئات المليارات من الدولارات لتعزيز أمن الطاقة.
وها هي وكالة الطاقة الدولية تصدر توقعات معادية للدول النفطية، وتحث الدول الأعضاء على تبني سياسات معادية لمنتجي النفط، عدا الولايات المتحدة، معرّضةً بذلك أمن الطاقة العالمي للخطر.
إن إدراك “التكامل” و”التداخل” بين الدول المستهلكة للطاقة والمنتجة لها، أهم خطوة في تحقيق أمن الطاقة العالمي، ومن ثم أمن الدول الأعضاء في وكالة الطاقة الدولية.
ويظهر تناقض الوكالة في محاولاتها الدائمة إرضاء حكومة الرئيس ترمب خوفاً على تمويلها، كون الولايات المتحدة أكبر مموليها، فتتبنى النفط الصخري، في الوقت الذي تحارب فيه نفط الدول الأخرى، ولعل من السخرية أن نذكر أنه في وقت الأزمات، قامت حكومات أميركا المتعاقبة بالاتصال بالسعودية للتنسيق معها لحل الأزمات النفطية، وليس بوكالة الطاقة الدولية.
وإذا نظرنا إلى سلوك “أوبك” عموماً، والسعودية بشكل خاص، خلال العقود الماضية، نجد أنها اهتمت بالمستهلكين، وبنمو الاقتصاد العالمي، ورفضت رفع الأسعار لمساعدة اقتصادات الدول المستهلكة، في الوقت الذي تجاهلت فيه وكالة الطاقة الدولية آثار انخفاض أسعار النفط على الدول المنتجة له واقتصاداتها وشعوبها.
وكان من المفترض أن يقوم منتدى الطاقة الدولي، الذي يتخذ من الرياض مقراً له، بهذا الدور بحيث يدرك الجميع أن أمن الطاقة موضوع عالمي لا يتجزأ، فلا يمكن لدولة ما أن تكون آمنة “طاقوياً” إلا إذا كان العالم ككل آمناً في هذا المجال، لكن تفاعل وكالة الطاقة الدولية لم يكن على مستوى الحدث، حتى مستوى التمثيل في اجتماعات منتدى الطاقة الدولي كان منخفضاً، وربما يحتاج المنتدى إلى زيادة فعاليته في هذا المجال كي يدرك السياسيون وصنّاع القرار أن أمن الطاقة مشترك، ولا يمكن لأي دولة أن تعيش بمأمن من أزمات الطاقة العالمية.
باختصار، أسهمت وكالة الطاقة الدولية، بدورها السلبي، في تعميق أزمات الطاقة في الدول المستهلكة.
نظرة مستقبلية
واستمرارية موقف الوكالة السلبي تجاه منتجي النفط والغاز، في الوقت الذي تتودد فيه للإدارة الأميركية بتمجيد دور النفط الصخري، ستؤدي إلى أزمة طاقة مستقبلية، والمشكلة أن فشل توقعات وكالة الطاقة لا يتبعه أي عقوبات لمن قام بالتوقع، ومن ثم لا يتبعه حتى اعتذار، ولو فشل موظف في القطاع الخاص في توقعاته كما فشل موظفو هذه الوكالة، لطُرد من عمله منذ زمن بعيد.
فالوكالة في سعيها لاستمرار دعم حكومة الرئيس ترمب المالي لها، في وقت قامت فيه أميركا بتخفيض أو إلغاء دعمها لكثير من المنظمات الدولية، ترى “نمواً هائلاً” في إنتاج النفط الصخري الأميركي، بحيث يغطي كل النمو في الطلب على النفط في السنوات المقبلة، وفي هذا التوقع، المدفوع بمصالح شخصية، مخاطر عديدة لأمن الطاقة العالمي وذلك للأسباب التالية:
1- لا يمكن منطقياً لوكالة الطاقة أن تحارب النفط وتدعمه في الوقت نفسه، ومن ثم لا يمكنها اقتراح سياسات صحيحة للدول الأعضاء فيها، فعدم صحة السياسات أو تناقضها يُعرِّض أمن الطاقة للخطر.
2- توقعات الوكالة فيما يتعلق بالنمو الهائل لإنتاج الصخري غير صحيحة لثلاثة أسباب، الأول أن النمو في انخفاض مستمر في الشهور الأخيرة، والثاني انخفاض الاستثمار في الصخري وهروب كثير من المستثمرين منه، والثالث أن نوعية النفط الصخري الأميركي ستحجم أسواقه، ومن ثم ستقلص نموه، وعدم نمو النفط الصخري بالشكل الذي تتوقعه وكالة الطاقة يعني وجود فجوة بين الطلب والعرض، فمن أين يأتي النفط لسد هذه الفجوة؟ وماذا لو كانت هذه الفجوة أكبر من الطاقة الإنتاجية الفائضة لدى دول أوبك؟ وماذا سيحصل لأمن الطاقة في الدول المستهلكة وقتها؟ ومن يدفع ثمن خطأ هذه التوقعات؟
3- توقعات الوكالة بزيادة كفاءة محركات البنزين والديزل مبالغ فيها بشكل كبير، ومن ثم فإن توقعاتها للطلب أقل مما سيكون عليه، وذلك لثلاثة أسباب، الأول أن هذا التحسن لم يحصل في الماضي إطلاقاً، حتى عندما كانت الأمور سهلة جداً في الثمانينيات، فكيف يحصل في المستقبل والأمور أصعب من ذي قبل؟ والثاني أن التكنولوجيا وصلت إلى أقصاها، وأي تحسن تقني الآن لن تظهر آثاره في السيارات إلا بعد نحو 15 سنة من الآن، والثالث أن هناك تحولاً كبيراً من السيارات الصغيرة إلى العائلية الكبيرة في الأسواق الرئيسة، خصوصاً في الولايات المتحدة والصين، ونتج عن هذا التحول في أميركا ثبات متوسط كفاءة محركات السيارات في السنوات الست الماضية، فمن أين سيأتي الانخفاض الكبير في الطلب على النفط الذي تتوقعه وكالة الطاقة إذا لم يكن هناك تحسن في مستوى كفاءة المحركات؟
4- هناك مشكلة تخص توقعات أثر انتشار السيارات الكهربائية في الطلب على النفط، إذ لا بد من التأكيد على أنني أؤيد استخدام السيارات الكهربائية، وأتوقع انتشارها بشكل كبير، إلا أن رواجها شيء، وأثرها في الطلب على النفط شيء آخر، فالتوقعات تعتبر أن أي سيارة كهربائية هي بديل لسيارة أو حافلة تعمل بالبنزين أو الديزل، وهذا غير صحيح، فقد تم، ويتم، وسيتم، إحلال السيارات والحافلات الكهربائية محل السيارات والحافلات التي كانت تعمل على الغاز المضغوط والغاز المسال سواء في الولايات المتحدة، أو أوروبا، أو الصين أو الهند.
وعلينا ألا ننسى أن كثيراً من الدول تبنت الغاز كبديل عن البنزين والديزل في قطاع المواصلات، واعتمدت الخطط طويلة المدى للقيام بذلك، وما نراه الآن هو أن خطط تبني السيارات الكهربائية على المدى الطويل حلت محل خطط تبني الغاز، ومن ثم فإن الأثر في الغاز والنفط أقل مما يذكرون في تقاريرهم!
هذا يعني أن ما نُشر عن أثر السيارات الكهربائية في الطلب على النفط مبالغ فيه، بسبب تجاهل إحلال السيارات الكهربائية محل تلك التي تعمل بالغاز، وهذا يعني أيضاً أن الطلب على النفط سيكون أعلى مما توقعه وكالة الطاقة الدولية.
خلاصة الأمر أن توقعات الوكالة الدولية تهدد أمن الطاقة العالمي بسبب تجاهلها احتياجات منتجي النفط وردة فعلهم على مبالغاتها، كما ذكرتُ في مقال الأسبوع الماضي، وبسبب تركيزها على استمرار الدعم الأميركي ومبالغتها في نمو إنتاج النفط الصخري، وبسبب تركيزها على أجندة معينة جعلتها تبالغ في آثار تحسُن كفاءة محركات البنزين والديزل من جهة، وفي آثار السيارات الكهربائية في الطلب على النفط من جهة أخرى.
أنس بن فيصل الحجي
اندبندت العربي