كان من الواضح منذ الاجتماع الأول بين دول مسار أستانا، روسيا وإيران وتركيا (كانون الثاني/يناير 23-24 2017)، أن ما يجمع بين الأطراف الثلاثة هي الحسابات المصلحية المتباينة، المتقاطعة.
فالتوجهات والمشاريع، والمصالح الخاصة بكل طرف مختلفة؛ ولكن في لحظة ما ألزمت مقتضيات الموقف الأطراف المعنية بالتوافق على سلسلة من التفاهمات المرحلية، وذلك انتظاراً لما سيكون عليه الموقف الأمريكي النهائي من ترتيب الأوضاع في سوريا، بل وربما في المنطقة كلها. فمن الواضح أن هناك معادلات إقليمية جديدة ستعتمد، لتكون أساساً للتوازنات، وتوزيع الأدوار في العقود المقبلة.
فروسيا لم يكن في مصلحتها أن تدخل في صراع مكشوف علني ضد غالبية السوريين، بل وضد غالبية العرب والمسلمين، مقابل حماية نظام تمكّن من البقاء بفعل دعم نظام ولي الفقيه، والأذرع التابعة له. لذلك كانت روسيا تبحث عن دعم عربي بهذه الصيغة أو تلك، وكانت الحجة المعتمدة هي أن النفوذ الروسي سيحد من النفوذ الإيراني، ويقطع الطريق أمام التغلغل الإيراني الشمولي في مفاصل الدولة والمجتمع السوريين. ولاعتبارات عدة لم تحصل روسيا على ما تريد من جانب الدول العربية. إلا أنها تلقفت الفرصة الثمينة من تركيا التي وجدت نفسها تائهة بعد حادثة إسقاط الطائرة الروسية (24 تشرين الثاني/نوفمبر 2015) وتنصّل حلف الناتو من مسؤولية دعم أعضائه والدفاع عنهم إذا ما لزم الأمر. بل بدا جلياً أن الناتو بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية لن يحرك ساكناً، وذلك في إطار عملية ممارسة المزيد من الضغط على اردوغان لحسابات بينية متراكمة ذات علاقة بطبيعة توجهات الحكومة التركية، ومراهناتها الإقليمية، ومنها ما له علاقة باعتماد الولايات المتحدة على حزب الاتحاد الديمقراطي، واعتباره شريكاً محلياً في عمليات محاربة “داعش” الكوكتيل المخابراتي، الذي أساء أولاً وأخيراً إلى الثورة السورية؛ في حين أن المستفيد الأكبر منه كان النظام وراعيه الإيراني.
دخلت روسيا إلى الساحة السورية من بوابة شماعة محاربة الإرهاب، أما الهدف الأساس فهو دعم النظام، وإفراغ مسار جنيف من محتواه، بل والانطلاق بمسار أستانا- سوتشي الذي تسبب في تسليم المناطق تباعاً للنظام وحلفائه عبر صفقات بات أمرها مكشوفاً للقاصي والداني.
هذا في حين أن النظام الإيراني كان قد وصل قبل التدخل الروسي (30 أيلول/سبتمبر 2015) إلى قناعة تامة بعجزه عن إنقاذ نظام بشار الأسد، وتغيير الموازين لصالحه على الأرض، وذلك نتيجة وصول الأخير إلى حافة الانهيار، وعجز الميليشيات المذهبية سواء العراقية أم الأفغانية والباكستانية، إلى جانب ميليشيات حزب الله في الاستمرار في القتال على الساحة السورية الواسعة كلها؛ فكان الاستنجاد بروسيا من قبل قاسم سليماني وبشار الأسد، وكان التفاهم مع تركيا بالنسبة إلى النظام الإيراني فرصة ذهبية للتمويه على مشروعه المذهبي الأيديولوجي التوسعي في المنطقة.
أما تركيا، فقد وجدت نفسها في وضعية لا تُحسد عليها؛ فعلى الصعيد الداخلي، لم تتمكن من إيجاد حل للملف الكردي بعد أن وصلت مباحثاتها مع حزب العمال الكردستاني إلى طريق مسدود بفعل الضغط الإيراني على الحزب المذكور من جهة، وضغط التيارات القومية سواء في داخل حزب العدالة والتنمية، أم في أوساط المعارضة بتياراتها المختلفة من جهة ثانية. وجاءت الإجراءات الردعية القاسية التي اتخذتها الحكومة بعد الانقلاب (15 تموز/ يوليو 2016) لتزيد الشرخ بين حزب العدالة وبقية الأحزاب، بل أدت تلك الإجراءات إلى خلافات بينية ضمن حزب العدالة نفسه.
وفي ظل واقع برودة العلاقات مع الناتو والولايات المتحدة الأمريكية تحديداً، كان الرئيس اردوغان قد اتخذ في (حزيران/يونيو 2016) قراراً بالانفتاح على كل من إسرائيل وروسيا، ما فتح المجال أمام التيار الأوراسي سواء ضمن حزب العدالة أم في محيطه، من ترتيب التحالفات، وصياغة المواقف التي تخدم توجهاته، فكان التحالف مع حزب الحركة القومية التركي، الأمر الذي وفر لاردوغان أغلبية برلمانية مكنته من تعديل الدستور (كانون الثاني/ يناير 2017) واعتماد النظام الرئاسي الذي لم يحظ بقبول كوادر أساسية من حزب العدالة والتنمية نفسه، وهذا ما أدى إلى انشقاقات أضعفت موقف الحزب المذكور، وموقف اردوغان على وجه التخصيص.
ولكن، وعلى الرغم من كل ذلك، استمر مسار أستانا الذي مكّن الروس والإيرانيين من السيطرة على مساحات واسعة من مناطق المعارضة، وذلك من خلال صفقات متبادلة كان النظام هو المستفيد الأكبر فيها. كما استفادت تركيا نفسها، وذلك من جهة تثبيت وجودها في مناطق متعددة على امتداد الحدود السورية التركية، في جرابلس واعزاز والباب وعفرين، وصولاً إلى تل أبيض ورأس العين.
غير أن عقدة العقد، إدلب، ظلت من دون حل. بل استخدمت المحافظة لتكون ساحة لتجميع عناصر مختلف الفصائل، مع أسرهم، ممن رفضوا الاستسلام للنظام بموجب صفقات “خفض التصعيد” التي تمت في إطار توافقات أستانا. كما أن المدنيين الهاربين من جحيم المعارك التي فرضها النظام مع رعاته على الشعب السوري، قد وجدوا في إدلب ملجأ آمناً آنياً، لاذوا به، في انتظار المجهول المرتقب.
ويُشار في هذا السياق إلى أن الوجود المستمر، المثير للجدل والتساؤل، لجبهة النصرة بأسمائها المختلفة في منطقة إدلب، خاصة إدلب المدينة، قد وفر فرصة ذهبية للروس بالدرجة الأولى الذين ادعوا دائماً بأنهم قد قدموا لمحاربة الإرهاب، ولكنهم قضوا على كل الفصائل المعارضة المعتدلة المناوئة بالفعل لحكم بشار الأسد، وأبقوا على جبهة النصرة تحديداً لتكون بمثابة مسمار جحا يُستخدم لتسويغ كل وحشيتهم وهمجيتهم ضد المدنيين والمشافي والمدارس والأسواق في مختلف بلدات ومدن محافظة إدلب.
تركيا اليوم هي في وضعية صعبة للغاية. فالولايات المتحدة الأمريكية، الحليف المفترض، ليست في وارد الإقدام على خطوة ردعية من شأنها إلزام الروس بإيقاف هجومهم الذي يتم تحت يافطة ضرورة سيطرة النظام مجدداً على كل المناطق السورية.
ويبدو أن الاتفاق العام الروسي الأمريكي حول سوريا ما زال ساري المفعول، رغم بعض التباينات التفصيلية هنا وهناك. ولكن تحديد مناطق النفوذ وقواعد التحرك، وتقسيم سماء سوريا وأرضها، كل هذه التوافقات باتت معلما من معالم اللوحة السورية السوريالية التي يعيشها السوريون في واقعهم اليومي. فالدوريات الروسية الأمريكية تسير جنياً إلى جنب، تتقاطع هنا وهناك، وتكون مشاجرات فردية في بعض الأحيان؛ ولكن الأمور بصورة عامة لا تخرج عن مساراتها المتفق عليها.
تركيا التي أرادت أن تؤدي دوراً براغماتياً، إن لم نقل انتهازياً، مع الأمريكان والروس الذين يتقاسمون الأرض السورية، تجد نفسها اليوم في موقف على غاية الصعوبة. فحساباتها الإدلبية لا تتطابق مع الحسابات الروسية. أما الأمريكان فهم من جهتهم قد منحوا الروس منذ زمن بعيد حرية التحرك في غربي الفرات، ولكن مع ذلك تظل عقدة إدلب المدينة عقدة العقد، ليس بالنسبة إلى الأتراك وحدهم، بل بالنسبة إلى الأوروبيين أيضاً الذين يتوجسون من موجة جديدة من اللاجئين لا تتحمل المجتمعات الأوروبية أعباءها، وهي التي تعاني راهناً من تصاعد النزعات الشعبوية والمتطرفة المعادية للأجانب.
هل سينفذ اردوغان تهديده، ويعلن الحرب الشاملة على النظام السوري؟ وهذا معناه بصورة مباشرة، أو غير مباشرة، مواجهة مع الروس والإيرانيين، وهي مواجهة مكلفة، ما لم يحصل على دعم واضح من جانب الناتو، والولايات المتحدة الأمريكية تحديداً؟
أم أنه سيضطر في نهاية المطاف إلى القبول بتسوية مذلة مع الروس والإيرانيين؟ وهذا مؤداه المزيد من الضغوط الداخلية، والمزيد من التباعد بينه وبين الأمريكان والغربيين بصورة عامة؟
المواجهة اليوم في إدلب هي مواجهة مفصلية بالنسبة إلى تركيا، إذ تتوقف على نتائجها أبعاد دورها الإقليمي، بل وربما طبيعة الحكومة التي ستكون بعد الانتخابات البرلمانية التركية المقبلة.
وحدها الولايات المتحدة الأمريكية تستطيع مساعدة الرئيس اردوغان ليتمكن من تجاوز تداعيات التحديات التي يواجهها في إدلب. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما الثمن؟ أو ما هو المقابل الذي سيحصل عليه ترامب وهو الذي يدير العالم بعقلية أصحاب الصفقات التجارية؟
عبدالباسط سيدا
القدس العربي