مع انتشار فيروس كورونا في العالم، شخّصَتْ أنظار الدول نحو الصين التي نشأ فيها الفيروس. ولكن ما أثار اهتمامي بالفعل، كوني أتابع شؤون الشرق الأوسط على مدى العقدين الماضيين، هو ظهور الفيروس في إيران، تلك الدولة التي تعتبر شريكاً تجارياً للصين وتشابهها في نظام حكمها الاستبدادي والمخادع. وفيما ينصبّ اهتمام الأسواق المالية والزعماء السياسيين على وصول الفيروس إلى أوروبا والولايات المتحدة، إلا أن ما يحدث في إيران – وهي القطب الجغرافي الذي يربط بين آسيا وأوراسيا وشبه الجزيرة العربية ودول المشرق – يجب أن يكون بنفس القدر من القلق.
فالتحديات التي تعيق مكافحة انتشار الفيروس في دولة لا تشتهر بشفافيتها تجلّت في الرابع العشرين من شباط/فبراير حين ظهرت على نائب وزير الصحة الإيراني أعراض العدوى في مؤتمره الصحفي، ولم تكن قد مضت سوى ساعات قليلة على تصريحٍ الرئيس الإيراني حسن روحاني والذي وصف فيه الوباء بـ”مؤامرة يحيكها أعداء” إيران. وحتى بعد أن أقرّ لاحقاً بتأكيد إصابته بالفيروس، قلّل وزير الصحة من مدى خطورة الوضع وأصر على أن الخبر المتداول بكثرة عن وفاة 50 شخصاً في مدينة قم قد تم تضخيمه وأنه ليست هناك حاجة إلى الحجر الصحي.
والواقع أن الاستخفاف بوقع الأوبئة العالمية ليس ظاهرة محصورة بمسؤولي الحكومة الإيرانية، بل إنها واسعة الانتشار بين الخبراء في شؤون الشرق الأوسط الذين يميلون إلى التركيز على مخاطر الحرب والإرهاب بشكلٍ أكبر عند وضع تنبؤاتهم. ولكن انتشار فيروس كورونا وصولاً إلى مهد أقدم وأعظم حضارات العالم هو تطور جوهري يخلّف تبعات طويلة الأمد على المنطقة والعالم ككل. إذ أن الأوبئة العالمية ستصبح قريباً أمراً عادياً وفي الوقت نفسه محرّكاً أساسياً لمستقبل المجتمع.
ومن الأفكار المنبثقة بين “الناظرين إلى المستقبل” ـ وأوليتُ اهتماماً للروائيين وكذلك الاقتصاديين وعلماء الاجتماع والتكنولوجيين ـ فكرةٌ تقول إن الأوبئة ستدحر مظاهر العولمة أو حتى توقفها بشكل حاد. وفي رواية “ذي واينداب غيرل” (The Windup Girl) للكاتب باولو باتشيغالوبي التي تجري أحداثها في تايلاند في المستقبل، تم تصوير عولمة اليوم على أنها حقبة من الماضي يتم تذكرها باسم “التوسع”، في حين أن التجارة العالمية انهارت بوجه الأوبئة العالمية والحروب على الموارد وتحولت إلى واقع جديد يُعرف بـ”الانكماش”.
وقد بدأت هذه المفاهيم في الشرق الأوسط، ولهذا السبب وُضعت الأوبئة بشكل متزايد في محور تنبؤاتي للمنطقة. فبالإضافة إلى الارتباط الوثيق للمنطقة بالعديد من الأماكن كونها حرفياً مركز الملاحة الجوية العالمية والطاقة والشحن العالمي، يزداد الشرق الأوسط ضعفاً بسبب الحروب والفساد والخدمات الصحية المتردية والأنظمة الحاكمة المخادعة التي قد تحاول التستّر على درجة انتشار الأوبئة العالمية في المستقبل كما تحاول الحكومة الإيرانية فعله اليوم.
وتعتبر مخيمات النازحين (مثل مخيم الزعتري للاجئين في الأردن التي يبلغ عدد سكانه 80،000 شخص) أكثر الأماكن عرضةً لهذا الخطر. فاللاجئون والمهاجرون الآخرون الذين يتدفقون سرّاً إلى أوروبا يشكلون عوامل خطر إضافية في انتشار الأوبئة عن طريق الشرق الأوسط.
ومن خلال الحروب الأهلية وأزمات اللاجئين في الوقت الحاضر، يمكننا استخلاص بعض المعلومات عن دور الأوبئة العالمية في رسم مستقبل العالم. فقد رأيتُ في سياق عملي كيف تتضافر العوامل المتعلقة بالإرهاب واللاجئين والموارد المحدودة لوضع تماسك المجتمعات قيد الاختبار.
وأثارت ويلات تنظيم «القاعدة»، ثم تنظيم «الدولة الإسلامية» لاحقاً، ردود فعل متباينة لدى سكان الدول الضعيفة كالعراق وسوريا واليمن. وفي بعض الأحيان، حاولت المناطق الأكثر استقراراً عزل نفسها أو تقييد حركة المواطنين على اختلاف طوائفهم أو حتى اكتناز مواردها الوافرة (مثل الكهرباء) ومنعها عن الأجزاء المضطربة من الدول التي تشهد حروباً أهلية.
وفي أكثر الأحيان صُدمتُ من مدى الانفتاح والترحيب اللذين أظهرهما “الميسورون” تجاه فقراء المجتمعات “الأقل حظاً” و “المصابة” بداء الحرب. غير أن الروابط الاجتماعية المُحكمة ونظرة الرحمة والرأفة بشكل عام والمجتمعات التي تتمتع بسيطرة خفيفة ستكون للأسف مفتوحة على مصراعيها أمام الأوبئة المستقبلية كفيروس كورونا.
وإحدى الأقاويل الشائعة التي تُردَّد عن العولمة هي أننا نعيش في عالم يزداد صغراً طوال الوقت، مما يعني أن السفر وطلب السلع أصبح أكثر سهولة وسرعة ورخصاً. ولكن ماذا لو كان المستقبل يشبه “الانكماش” الذي تحدث عنه باتشيغالوبي؟
عند التفكير بمنطقة الشرق الأوسط التي تشكل محور تركيزي، أستطيع تصوّر بعض الأمور التي قد لا تتأثر. فسوف تستمر السلع في التدفق طالما كانت هناك حاجة إلى الهيدروكربونات، لأنه من الممكن تشغيل قطاع النفط والغاز مع عدد أقل من الأشخاص المحميين بشكل جيد، ولا تشكل صادرات الطاقة أي خطر للإصابة بالعدوى تقريباً.
وفي المقابل، سوف تتغير حركة الناس بالكامل، مع تأثيرات اجتماعية واقتصادية عميقة على بعض أجزاء المنطقة. تخيّلوا تقلّص حركة الحجاج الوافدين إلى مكة المكرمة أو خروج الاختصاصيين المغتربين من دبي أو نهاية ظاهرة استيراد العمال الآسيويين إلى الخليج.
إن العديد من المجتمعات مبنيّة على السفر، من بينها العديد من الدول الغربية. (عندما حوصرتُ في المملكة المتحدة بسبب غيوم الرماد الناجمة عن ثوران بركان Eyjafjallajökull في أيسلندا عام 2010، كان لديّ الوقت والميل لكي أتصوَّر كيف يمكن أن تتطور المملكة المتحدة تحت منطقة حظر طيران دائمة.)
في إطار سيناريو الانكماش، حين يرغب الناس في العمل في بلد ما، قد يضطرون إلى الالتزام بالبقاء فيه لفترة طويلة جداً، إن لم يكن إلى الأبد. وفي فيلم “كود 46” الذي تجري أحداثه في المستقبل القريب، تُعتبر كل التنقلات عبر الحدود عملاً بيروقراطياً معقداً ينطوي على خطر الاستبعاد الدائم. وقد تضطر الدول – بما فيها دول الخليج الملكية الحصرية – إلى إعادة النظر في قوانين الجنسية لتشجيع الهجرة الهادفة.
ومع ذلك، فإن إحدى الحسنات التي يجنيها سكان الشرق الأوسط من هذا السيناريو قد تتمثل في حصر اقتصادهم بالساحة المحلية، وذلك بعد المرور بفترة تكيّف صعبة. ولعل هذا التطور سيحدث في كافة الأحوال بما أن تبلور تقنية الطباعة الثلاثية الأبعاد والتصنيع الإضافي وتقنية النانو ستخفف الحاجة إلى شحن الأصناف المختلفة من مسافات بعيدة، فيأتي الانكماش الناتج عن الأوبئة ليسرّع وتيرة هذا المنحى. وبذلك ستجد الدول التي تخطتها الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، ومن بينها معظم دول الشرق الأوسط، حافزاً جديداً يدفعها بعيداً عن الاعتماد على الواردات ونحو خلق فرص العمل.
وقد لا يتأثر انتشار الأفكار والثقافة في العالم تأثراً مباشراً بالانكماش الناجم عن الأوبئة، ولكن مع ذلك سيحدث ارتفاعٌ مفاجئ في مذاهب القومية والوطنية والحمائية التي بدأت بالفعل في الظهور رداً على التأثيرات الاقتصادية والتنوع الاجتماعي للعولمة. وقد يكون العديد من الشرق أوسطيين سعداء جداً برؤية التخفيف من فرض ما وصفه مساعد هنري كيسنجر، ديفيد يونغ “خطر الثقافة المهيمنة” – وهو الخطر بأن تصبح كل الأماكن متشابهة بفعل العولمة، فتُمحى الاختلافات التي تبعث على الفرح والمفاجأة.
وفي مستقبل حافلٍ بالأوبئة العالمية، قد تصبح الدول القومية أكثر قوة لأنها تحدد بوضوح مَن الذي يمكن أن يدخلها ومَن يجب أن يخرج منها بناءً على جنسيته، ولأن حدودها مضبوطة جيداً. ولكن الدول لن تزداد شرعية إلا إذا أثبتت فعاليتها عند خضوعها للاختبار، إذا كان ذلك من الأوبئة أو من التهديدات الأخرى.
أما الدول الغير كفوءة التي تمتد حدودها البرية على مسافات طويلة وتتردى فيها أنظمة الصحة العامة – مثل روسيا وإيران وربما الصين – فقد تكون الأكثر عرضة للخطر في النظام البيئي الجديد من الأوبئة المتكررة. وفي هذه الدول الضعيفة، قد يكون الأثر الطبيعي المترتب عن الانكماش الناجم عن الأوبئة هو انقسامها إلى منظومات ثانوية أصغر حجماً وأكثر تماسكاً وربما أيضاً أكثر استبداداً.
وحيث يزداد عالمنا اليوم صغراً، ثمة أسبابٌ وجيهة تدعو إلى التفكير في كيفية تأقلملنا (جماعياً وفردياً) مع العيش مجدداً في عالم أكبر تبعد فيه الأماكن الأخرى، وتصبح فيه الأطراف الفاعلة المحلية مجدداً سيدة مصيرها دون منازع. وبينما تصبح الأوبئة العالمية سمة سائدة في النظام العالمي، فقد يخاطر “التوسع” قصير العمر بالوصول إلى نهايته. كما أن بعض الأصوات المطالبة بالانعزالية في أمريكا قد تجد في الأوبئة سبباً إضافياً لاعتبار العالم مكاناً خطيراً يجب تجنبه بأي ثمن. وفي المقابل، إذا ظلّت الولايات المتحدة تؤيد وجود النظام العالمي والأسواق العالمية، فستحتاج إلى قيادة عملية دفاع جماعية ضد خطر الوباء، أي الزلزال العالمي القادم الذي قد لا يكون فيروس كورونا سوى هزة مبكرة وخفيفة من هزّاته.
مايكل نايتس
معهد واشنطن