الاستراتيجية الجديدة لـ «حزب الله» لتخطي الأزمة المالية في لبنان

الاستراتيجية الجديدة لـ «حزب الله» لتخطي الأزمة المالية في لبنان

خلال الزيارة التي قام بها مسؤولون من “صندوق النقد الدولي” إلى لبنان في أواخر الشهر الماضي وسط التراجع الاقتصادي السريع للبلاد، تساءل الكثيرون عمّا إذا كانت هذه التطورات قد تغير سلوك «حزب الله»، الجماعة التي صنفتها [الولايات المتحدة] منظمة إرهابية والتي لها حصة مالية عميقة في القطاعين العام والخاص في لبنان. وخلال أزمة تمويل سابقة مر بها التنظيم – زيادة العقوبات الأمريكية ضد ضامن التعهد الرئيسي للحزب، إيران – عمد «حزب الله» مع رعاته الأجانب إلى وضع استراتيجية جديدة تهدف إلى التهرب من هذه التدابير وإيجاد مصادر تمويل بديلة. وسمحت هذه المصادر لـ «حزب الله» بالوصول إلى الوكالات الحكومية بعد الانتخابات البرلمانية عام 2018. على سبيل المثال، أصر قادة الحزب على السيطرة على وزارة الصحة، التي تشرف على رابع أكبر ميزانية في لبنان بمبلغ 338 مليون دولار في السنة؛ كما اكتسبوا مزيد من الوصول إلى وزارة الأشغال العامة والنقل، ووزارة الزراعة، ووزارة الطاقة والمياه، التي استُخدمت مساعداتها لتمويل مشاريعهم وأعمالهم التجارية المتصلة بهذه الوزارات.

ونجحت هذه الاستراتيجية إلى أن بدأ الاقتصاد اللبناني في الانخفاض. وسجَّل معدل البطالة ارتفاعاً قياسياً بلغ 40 في المائة، وتراجعت الليرة اللبنانية بنحو 60 في المائة في السوق الموازية، مما زاد التضخم. وحيث ترتبط العملة رسمياً بالدولار، فقد هبطت بنسبة 40 في المائة في السوق السوداء حيث تقتصد البنوك المحلية الدولارات اللازمة لاستيراد المواد الغذائية والأدوية والسلع الأساسية الأخرى. وفي هذا السياق، يوجد في لبنان واحدة من أعلى نسب الدَيْن إلى “الناتج المحلي الإجمالي” في العالم (أكثر من 150 في المائة)، وقد لا يتمكن (لبنان) من تسديد سندات “اليورو بوند” المستحقة بقيمة 1,2 مليار دولار هذا الشهر. ولكن كما حدث في ظل العقوبات المفروضة على إيران، يملك «حزب الله» استراتيجية كفيلة بتخطي هذه الضغوط المحلية، على الأقل في المدى القريب.

محادثات “صندوق النقد الدولي” مجرد لتشتيت الانتباه

سعياً لكسب المزيد من الوقت لإيجاد مصادر تمويل بديلة وتنميتها، أعطى «حزب الله» بركته للحكومة التي تشكلت حديثاً والتي يسيطر عليها الحزب لاستقبال وفدٍ صغير من “صندوق النقد الدولي” الشهر الماضي. وأوضح مسؤولو «حزب الله» جلياً أن هذه ما هي إلا مساعدة فنية غير ملزِمة ولن تُتَرجم أبداً إلى برنامج كامل يطبّقه “صندوق النقد الدولي” في لبنان. وخلال مؤتمر صحفي في 25 شباط/فبراير، قال نائب الأمين العام للحزب نعيم قاسم، “نحن لا نقبل الخضوع لـ «صندوق النقد الدولي» ليدير الأزمة”، مما قلل من أهمية «حزب الله» كأداة إمبريالية.

إن مقاومة الحزب لانخراط أعمق من “صندوق النقد الدولي” متأصلة في الواقع المتمثل بأن برنامج المساعدة الكاملة سيسمح لـ “الصندوق” بالوصول إلى مؤسسات الدولة الكبرى وفرض إصلاحات جدية فيها، وبالتالي زعزعة نظام المحسوبية الذي يعتمده «حزب الله» وفضح عملياته المالية للمجتمع الدولي. على سبيل المثال، من شأن أحد الإصلاحات المقترحة أن يغلق جميع نقاط الدخول غير القانونية بين لبنان وسوريا مع ممارسة المزيد من السيطرة على الموانئ الجوية والبحرية في البلاد – وهي نتيجة من شأنها أن تعيق بشكل خطير تهريب الحزب للسلع والأسلحة. وقضية مهمة أخرى لـ “صندوق النقد الدولي” هي قطاع الكهرباء، الذي يفضل الحزب تركه دون إصلاح لأنه يستفيد من قطاع الطاقة البديلة (على سبيل المثال، أقامت كيانات «حزب الله» شبكات مولدات كبيرة يمكنها توفير الطاقة لأحياء بأكملها، ثم فرضت رسوم على السكان مقابل الخدمة التي من المفترض أن تقدمها الدولة).

في الوقت نفسه، يرحّب «حزب الله» على الأرجح بمناقشات أولية غير ملزمة مع “صندوق النقد الدولي” لتشتيت الانتباه عن أهدافه الحقيقية، وهي تنفيذ استراتيجية تمكّنه من الاحتفاظ بسلطته في لبنان خلال الانهيار الاقتصادي وبعده، وإصلاح صورته المشوّهة داخل المجتمع الشيعي، والأهم من ذلك، تأمين مصادر التمويل القادرة على الصمود بوجه الانهيار. وهناك أساليب عديدة سيتبعها الحزب لتحقيق هذه الأهداف.

تعزيز المنتجات الإيرانية وتهريبها

يستغل «حزب الله» الأزمة الاقتصادية للترويج للمنتجات الإيرانية في لبنان، والتي يتم جلبها معفاة من الضرائب وبالتالي فهي رخيصة للغاية. فبعد أن أطلق الحزب حملته الداعية إلى مقاطعة المنتجات الأمريكية في الشهر الماضي، بدأ العديد من مواقع التواصل الاجتماعي التابعة للحزب بالترويج للسلع الإيرانية كبديل عنها. ولا يخفى على أحد أن طهران تغمر السوق اللبناني بمختلف المنتجات منذ سنوات، ومن المرجح أن تستمر في تسريع هذه الجهود وسط ضغوط مستمرة. فبين عامي 2017 و 2019، على سبيل المثال، أفادت بعض التقارير أن واردات الصلب الإيراني إلى لبنان قفزت من13,000 دولار إلى 1.4 مليون دولار. كما تُشكل الأدوية الإيرانية واردات مهمة أخرى يروج لها «حزب الله». وقد لفتت وزارة الخزانة الأمريكية إلى هذا الرابط في 26 شباط/فبراير حين فرضت تصنيفات إرهابية على العديد من شركات الأدوية اللبنانية المتعاملة مع “مؤسسة الشهيد” التابعة لـ «حزب الله».

ولتفادي هذا الضغط والحفاظ على تدفق البضائع الإيرانية، قام «حزب الله» مؤخراً بزيادة عمليات التهريب – ليس فقط على طول الحدود اللبنانية -السورية، بل أيضاً إلى بقية المنطقة. ومعظم التجار والزبائن المتورطين في هذه التجارة غير النظامية – وغير المشروعة في غالب الأحيان – هم أشخاص مقرّبون من شبكات الأعمال التجارية والدعم التابعة لـ «حزب الله»، مما قد يسمح للحزب بالخروج من الانهيار الاقتصادي أقل تضرراً من بقية المؤسسات اللبنانية.

رفع شأن “مؤسسة القرض الحسن”

عندما بدأت المصارف اللبنانية في الحد من سحب الدولار الأمريكي في أواخر تشرين الأول/أكتوبر، قرر العديد من المودّعين سحب أكبر قدر ممكن من الدولارات نقداً. وهكذا، تم سحب ما يقدر بنحو 5 مليارات دولار في الأشهر الأربعة الماضية وحدها.

ويحاول «حزب الله» الاستفادة من هذا الاحتياطي النقدي العام غير الرسمي بطريقتين. أولاً، تكثيف خطاباته المعادية للنظام المصرفي من أجل صرف الغضب الشعبي عن دور «حزب الله» نفسه في الفساد المتفشي. ثانياً، تشجيع الشعب على الاستعانة بمؤسسات الحزب المالية لإجراء عمليات التبادل والإيداع لأموالهم – وخصوصاً “مؤسسة القرض الحسن” المصنفة على قائمة الإرهاب الأمريكية والتي أصبحت مؤخراً المؤسسة الرئيسية التي يستخدمها الحزب في معاملاته المالية، والبديل الافتراضي عن المصارف لمناصريه الشيعة. ومع تدهور الاقتصاد اللبناني بصورة أكثر، قد يشعر المزيد من المواطنين بأنهم مضطرون إلى اللجوء إلى مثل هذه المؤسسات، التي من المحتمل أن يكون الدولار الأمريكي مُتاح لها بأسعار أرخص من الأسواق السوداء.

إضفاء الشرعية على الماريجوانا

تخلّى «حزب الله» مؤخراً عن اعتراضه التاريخي الدقيق على تشريع الحشيشة أو الماريجوانا، مما أثار تساؤلات عن دوافعه. وفي 26 شباط/فبراير، تم السماح أخيراً لمجلس النواب اللبناني بالموافقة على مشروع قانون تأجل طويلاً يشرّع زراعة الماريجوانا لأغراض طبية وصناعية.

ويعتقد العديد من السكان المحليين أن هذه الخطوة يمكن أن تفيد لبنان اقتصادياً، حيث تصنفه الأمم المتحدة رابع أكبر منتج للماريجوانا في العالم. ومع ذلك، يشعر آخرون بالقلق من أن «حزب الله» سيكون المستفيد الرئيسي نظراً لسيطرته على مؤسسات الدولة التي ستحدد كيفية إدارة هذا القطاع واستخدامه.

التخلص من بري

عندما خرج المحتجون الشيعة اللبنانيون إلى الشوارع في مدن النبطية وصور وبعلبك، استنتج «حزب الله» على ما يبدو أن مناصريه بدأوا يخرجون عن نطاق سيطرته. ورغم أن تلك التظاهرات كانت تندد بالفساد عموماً، إلا أنها استهدفت «حزب الله» بشكل غير مباشر باعتباره الحامي الرئيسي للسياسيين الفاسدين. ففي نظر الشيعة المحليين، كان أبرز هؤلاء السياسيين نبيه بري، رئيس مجلس النواب ورئيس «حركة أمل» – الشريك السياسي المنافس لـ «حزب الله».

ولمعالجة هذه المشكلة وإعادة بناء صورته بين الشيعة، يخطط «حزب الله» للإطاحة ببري، وبذلك يضرب عصفورين بحجر واحد: الإثبات للمجتمع الشيعي أنه لن يحمي الفساد بعد الآن، والاستئثار بحصة بري من مؤسسات الدولة وشبكات الأعمال الشيعية. وفي الواقع أن مساعي استبدال بري كرئيس مجلس النواب جارية منذ فترة، وأبرز المرشحين لهذا المنصب هما المدير العام السابق للأمن العام والحليف المقرب من نظام الأسد السوري، جميل السيد والمدير العام الحالي عباس ابراهيم.

التوصيات

إنّ استراتيجية «حزب الله» الجديدة قد تساعده على الصمود، لكن ليس لفترة طويلة. فعندما أعلن الحزب اعتراضه على تطبيق برنامج “صندوق النقد الدولي” في لبنان، فإنه لم يقدّم أي بديل لإنقاذ الدولة من الإفلاس المحتّم. ولا يمكن لمخطط «حزب الله» الاستمرار دون هيكل دولة على الأقل. ويدرك مسؤولو الحزب هذه المهلة الزمنية، وعلى غرار رعاتهم في إيران، يبدو أنهم يأملون في أن تسفر الانتخابات الرئاسية الأمريكية في تشرين الثاني/نوفمبر عن مجئ إدارة جديدة تكون على استعداد لتخفيف سياسة الضغط الأقصى.

ومن أجل التصدي لمخطط «حزب الله» ومساعدة الشعب اللبناني على النجاة من هذه الأزمة، يجب على الولايات المتحدة وحلفائها توسيع نطاق العقوبات ضد الأفراد الفاسدين. فالحزب يعتمد على حلفاء له من مختلف الطوائف وعلى نظام الفساد المستشري في جميع أنحاء البلاد الذي يحمي مصالحه في الموانئ البحرية والمطارات وطرق التهريب غير القانونية. لذا يشكل “قانون ماغنيتسكي العالمي” أداةً مناسبة للتعامل مع هذه المسألة والاستجابة لمتطلبات المتظاهرين.

بالإضافة إلى ذلك، في حين أن إنقاذ الحكومة الراهنة [من خلال تزويدها بالمساعدات المالية اللازمة] لإخراجها من أزمتها لن يؤدي إلّا إلى تفاقم المشكلة، إلّا أن تقديم المساعدات الإنسانية قد يسهم في مواجهة المحاولات التي يبذلها «حزب الله» للترويج للأدوية الإيرانية وغيرها من السلع الأساسية. يجب أن يتم هذا الجهد من خلال المنظمات الدولية العاملة بالفعل في لبنان، وليس عن طريق المنظمات الحكومية أو البلديات المحلية التي يمكن أن تفيد «حزب الله» والنظام الفاسد.

أخيراً، يجب على واشنطن مواصلة الضغط على القوات المسلحة اللبنانية لحماية المتظاهرين ومعاقبة جميع الوحدات والضباط الذين يرتكبون انتهاكات ضدهم. فاستراتيجية «حزب الله» لن تجدي نفعاً إلا إذا بقي النظام الحالي والنخبة السياسية على حالها – أي أن البرلمان الذي يسيطر عليه «حزب الله» هو الذي يمكنه فقط أن يضمن تعيين المرشحين المفضلين للحزب لمناصب رئيس مجلس النواب، ورئيس الجمهورية والمناصب الأمنية، والحفاظ على مصادر تمويله البديلة. وما زال المحتجون يطالبون بإجراء انتخابات مبكرة [وسَنْ] قانون انتخابي تمثيلي حقاً يمكن أن يغيّر تشكيل الهيئة التشريعية بشكل كبير. يجب على واشنطن وحلفائها أن يستغلوا هذا الزخم بينما لا يزال متّقداً، ويعرقلوا مخطط صمود «حزب الله» في طور ذلك.

حنين غدار

معهد واشنطن