خطة سلام بديلة

خطة سلام بديلة

سلّط الردّ السلبي المخيب للآمال للكثير من دول العالم العربي إزاء اقتراح السلام الذي أعلن عنه مؤخرًا الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الضوء على الحاجة الملحة إلى رؤى بديلة لأطروحة السلام، وبخاصة من الجانب الفلسطيني. وكمجتمع دولي، علينا زعزعة أسس هذا الصراع لإحلال السلام. فالمصالحة والسلام التاليان سيغيران العلاقات بين شعوبنا المتصارعة: جزء كبير من المخاوف التي نجدها ملحة في أوقات النزاعات ستصبح أقل إلحاحًا أو حتى ستتبدد في أوقات السلم.

كما أن السعي لإيجاد بديل هو أمر ضروري نظرًا إلى أن استمرار الوضع القائم في الأراضي الفلسطينية (الضفة الغربية وقطاع غزة) هو سبب لصراع لا ينتهي، ناهيك عن انه وضع لا يمكن له أن يستمر. وفي حين أن مخاطر هذا الوضع القائم ربما تهدد الفلسطينيين بشكل أكبر، يجدر أيضًا بالإسرائيليين أن يفهموا أن الأوضاع لن تبقى على ما هي عليه من دون أن تتدهور: فعدم اعتراف إسرائيل بالسيادة الفلسطينية على أراضيها وحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره ينتهك القانون الدولي وسيقوّض تدريجيًا مكانة دولة إسرائيل في الساحة العالمية، ويؤجج المشاعر المعادية للسامية عالميًا.

وعليه، أقترح خطة سلام بديلة مصممة لتكون حقًا عادلة ومنصفة للطرفين. أما خطة السلام هذه، التي صاغها فرد وحددت معالمها سنوات من الخبرة، فليست مصممة لتكون بديلًا شاملًا عن المفاوضات السابقة؛ بل إنها مصممة لتقديم حلول عادلة وجدية للقضايا الأكثر جدلًا في الصراع. وهي تقرّ بالتاريخ المعقد للقضايا الأساسية التي تغذي الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، بما في ذلك وضع اللاجئين، والقدس، والحدود، وحق الفلسطينيين واليهود بالسيادة وتقرير المصير في هذه الأرض المقدسة. وهي تقترح بعد ذلك سبيلًا لحل هذه القضايا يقرّ ويأخذ في الحسبان مخاوف الطرفين وتطلعاتهم المستقبلية.

الاعتراف المتبادل: الدولة والحدود

يتمثل المبدأ الأساسي لهذه الاتفاقية البديلة في أن إعلان دولة لكل شعب هو نقطة انطلاق ضرورية. فستقام دولة فلسطينية سيادية ومستقلة وعلمانية في الضفة الغربية وقطاع غزة بجوار دولة إسرائيلية سيادية ومستقلة ويهودية. ومن شأن إقامة دولة رسمية أن تضع حدًا لعلاقة الاحتلال-المحتل بين شعبيْ فلسطين وإسرائيل.

وفي حين سيتمّ الاعتراف والإقرار بهاتين الدولتين بشكل متبادل، على الطرفين أيضًا الإقرار بالروابط التاريخية العميقة المتبادلة بالأرض التي يتنازع عليها الطرفان بشدة. وستعترف إسرائيل بأن الأرض المقدسة هي أرض الشعب الفلسطيني، وبدورها ستقرّ فلسطين بأن الأرض المقدسة هي أيضًا أرض الشعب اليهودي. كما سيحترم الفلسطينيون السيادة الوطنية وحق تقرير المصير للشعب اليهودي في أرض الأجداد، بما يضع حدًا لأكثر من 1900 عام من المنفى والشتات والاضطهاد. أما الإسرائيليون، فسيقرون بالسيادة الوطنية وحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني في أرض الأجداد القائمة على أساس قرار الأمم المتحدة رقم 181 والمعروف أيضًا باسم خطة تقسيم فلسطين الصادرة عن الأمم المتحدة في العام 1947.

وسيطال هذا الاعتراف الأقليات أيضًا في الدولتين: فسيقبل الفلسطينيون بشرعية الحقوق التاريخية لليهود في فلسطين وسيقبلون بأقلية يهودية تعيش في دولة فلسطين المستقلة وتتمتع بكافة حقوقها المدنية أسوةً بالأغلبية العربية. من جهتها، ستتمتع الأقلية العربية في إسرائيل بكافة حقوقها المدنية أسوة بالأغلبية اليهودية. وسيُمنح الفلسطينيون اليهود في دولة فلسطين والإسرائيليون العرب في دولة إسرائيل خيار حمل جنسيتين. وسيساهم هذا الاعتراف المتبادل إلى حدّ كبير في وضع حدّ للكراهية والعداوة بين الشعبين.

وما إن يتمّ ترسيخ هذا الاعتراف المتبادل، ستبرز أطر سياسية أساسية بين الدولتين. وسيصوت الإسرائيليون لانتخاب أعضاء الكنيست الإسرائيلي، في حين سيدلي الفلسطينيون بأصواتهم لانتخاب نوابهم في البرلمان الفلسطيني. على نحو مماثل، ستنظر المحاكم في الدعاوى القضائية المقامة في فلسطين وفقًا للقوانين الفلسطينية وستطبق القوانين الإسرائيلية في محاكم إسرائيل. غير أن يهود فلسطين الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية سيتمتعون حصرًا بخيار الخضوع لقوانين إسرائيلية، حيث ستحاكمهم المحاكم الإسرائيلية بحسب القانون الإسرائيلي الخاص والجنائي. ومن شأن هذا الترتيب أن يحترم حق اليهود بعدم الخضوع للقوانين الفلسطينية خارج نطاق القانون العام والإداري.

وعلى الصعيد الأمني، ستكون دولة فلسطين منزوعة السلاح. وتُعتبر حالتا اليابان وألمانيا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية خير مثال على كيفية تحويل وجهة استعمال الأموال التي كانت لتخصص للنفقات العسكرية بدلًا من ذلك لتحسين البنية التربوية والاجتماعية وبناء الاقتصاد، مما جعل الدولتين من الدول الأكثر نفوذًا والأكثر نجاحًا اقتصاديًا وصناعيا.

وسيسمح عدم وجود العبئ المالي لجيش نظامي لدولة فلسطين بتحويل مواردها المالية والبشرية المحدودة لتطوير اقتصادها وإمكانياتها العلمية والتكنولوجية. وبهدف ضمان الأمن، ستوقع إسرائيل وفلسطين معاهدة أمن متبادلة تضمن سلامة وأمن الشعبين. كذلك، سيساعد المجتمع الدولي دولة فلسطين على التصدي للتطرف الديني والتهديدات التي تطرحها المنظمات الإرهابية الراديكالية الداخلية والخارجية.

وستكون الحدود المعترف بها لإسرائيل وفلسطين هي نفسها حدود ما قبل العام 1967 مع تعديلات يتفق عليها الطرفان ومبادلات أراضٍ بالتراضي – وهو مبدأ وافق عليه الطرفان أساسًا. وستكون الأراضي المتبادلة متساوية من حيث الحجم والنوعية. لكن بخلاف نموذج الدولة القومية النموذجية، ستبقى بعض المنافذ قائمة على الحدود بين الدولتين. وفي عالم اليوم، تتضاءل الحاجة إلى ترسيم الحدود.

وسيُسمح للشتات الفلسطيني، الذي تشرد بفعل حربيْ 1947-1948 و1967، بممارسة حق العودة إلى دولة فلسطين. غير أن مطلب السماح لهؤلاء اللاجئين بالعودة إلى منازلهم الأصلية في دولة اسرائيل لم يعد واقعيًا أو عمليًا نظرًا إلى التطورات العالمية والإقليمية والمحلية التي حصلت منذ العام 1948 وما يتطلبه ذلك حرمانهم من الانتماء لدولتهم ولهويتهم الفلسطينية.

أما بالنسبة لأولئك الذين يختارون عدم ممارسة حقهم بالعودة إلى دولة فلسطين، فسيحصلون على تعويض بفضل الأصول المخصصة لتطبيق خطة السلام. وسيكون ذلك من خلال اتفاق مشترك بين دولة إسرائيل والدول العربية المنتجة للنفط والمجتمع الدولي من أجل التعويض ماديًا على الفلسطينيين المشردين بفعل الحروب التي اندلعت بعد العام 1947. وستساهم هذه الأصول بشكل أساسي في تسهيل إعادة توطين واستيعاب اللاجئين في موطنهم الطبيعي. وسيحل ذلك محل الخدمات الدولية على غرار “وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين” (“الأونروا”) التي كانت مصممة أساسًا لمساعدة اللاجئين الفلسطينيين. وعلى نحو مماثل، سيحصل اللاجئون اليهود الذين أرغموا على الهرب من الدول العربية أواخر الأربعينيات ومطلع الخمسينيات على تعويضات من هذه الأموال نفسها.

القدس

تؤدي مناقشة حدود الأراضي والجنسية حتمًا إلى المسألة الشائكة على نحو خاص ألا وهي مدينة القدس. فلا بدّ لتحديد وضع هذه المدينة التاريخية المقدسة التي تجمع الأديان السماوية الثلاثة من أن يستند أيضًا إلى الاحترام المتبادل والإقرار بوضعها الخاص. وينظر كل من اليهود والمسيحيين والمسلمين، وهم محقون بذلك، إلى القدس باعتبارها مدينة قيّمة وعزيزة على قلوبهم، ولا بدّ من الإقرار والاعتراف بهذه الأهمية الدينية الفريدة من نوعها واحترامها في أي اتفاق نهائي.

كما يجب الاعتراف بالقدس على أنها مدينة “مزدوجة الهوية”. فمدينة القدس داخل أسوار البلدة القديمة – التي بناها السلطان العثماني سليمان القانوني منذ أكثر من 500 عام – هي “المدينة الدينية” المذكورة في كافة الكتب المقدسة وتضمّ مواقع تتسم بدرجة عالية من القدسية لكافة الديانات السماوية. وخارج جدران البلدة القديمة تقع “القدس الحديثة” التي تمّ ضمها إلى المفهوم الأشمل للقدس خلال السنوات المئة الماضية. وهذه الأرض التي ضمتها بلدية القدس هي التي يمكن تشاركها كعاصمتين لإسرائيل وفلسطين.

تجدر الملاحظة أنه ثمة اختلافات جذرية من حيث المعنى والمكانة بين “المدينة القديمة” القيّمة دينيًا و”المدينة البلدية” ذات الثقل الإداري. وعليه، لا بدّ من إخضاعهما لنماذج حوكمة مختلفة. ففي وقت يجب فيه إبقاء المدينة موحدة جغرافيًا – مع عدم استعمال جدران حديثة وأسلاك شائكة، سيتمّ وضع مدينة القدس القديمة تحت سيادة حكم الله – التي تعتبر السلطة المقدسة التي تعترف بها وتحترمها كافة الأطراف. وستتمركز الهيكليتان الحكوميتان الفدراليتان، البرلمان/الكنيست والمحاكم العليا في إسرائيل وفلسطين خارج البلدة القديمة أي المدينة المقدسة، أي في القدس الغربية والقدس الشرقية على التوالي. وستتولى بلدية تمثل كافة سكان القدس إدارة شؤون المدينة ككل على أساس يومي.

غير أن المواقع الدينية المقدسة في المدينة ستكون مفتوحة أمام الجميع. وحاليًا، يُسمح للمسلمين بزيارة المواقع المقدسة اليهودية والمسيحية، على غرار حائط المبكى وكنيسة القيامة في القدس. وعليه، سيُسمح لغير المسلمين بدخول المواقع المقدسة المسلمة على غرار الحرم الشريف والمسجد الأقصى.

وفي الوقت الراهن، صحيح أن القدس موحدة كأرض ولكنها مقسمة ديمغرافيًا وسياسيًا ونفسيًا ودينيًا. ورغم أن الوضع الحالي يعكس هذه الانقسامات وكأنها وضع قائم “بحكم الواقع”، تقترح هذه الخطة فرض وضع متبادل بحكم الواقع وبحكم القانون يقرّ بهذه الانقسامات مع توفير سبيل يكفل ارتباطات الطرفين السياسية والدينية بالمدينة.

التعاون والتعايش

رغم أن هذه الخطة تقترح إقامة دولة، إلا أنها تقرّ في الوقت نفسه بالترابط الفريد الذي يختبره أساسًا الإسرائيليون والفلسطينيون.

وسيكون للفلسطينيين من الضفة الغربية وقطاع غزة حق السفر بحرية والعمل في إسرائيل. كما سيُسمح للإسرائيليين بالتحرك بحرية والعمل في دولة فلسطين المستقلة.

هذا وسيتمّ إنشاء لجنة مشتركة مهمتها تطبيق منهج تربوي للسلام يعلّم المواطنين في الدولتين تاريخ وثقافة الشعبين اليهودي والفلسطيني – إلى جانب معنى وأهمية الأرض المقدسة بالنسبة لكل مجتمع تمهيدًا لتطبيق هذه الخطة. وستشرف هذه اللجنة المشتركة على التعليم بكافة مستوياته بغية ضمان خلوّه من التلقين العقائدي والكراهية والتحريض.

أما التعاون الاقتصادي بين إسرائيل وفلسطين، فسيهدف إلى ضمان الرفاه والازدهار للشعبين. وعلى غرار قضية اللاجئين الناتجة عن حرب 1948، سيموّل المجتمع الدولي والدول العربية المنتجة للنفط بناء البنى التحتية والاقتصاد في فلسطين بشكل كامل بواسطة الأموال التي كانت مخصصة نظريًا للنفقات العسكرية.

رسم مسار سلام

سيتمّ تطبيق الأقسام المذكورة أعلاه لخطة السلام على مراحل في إطار جدول زمني يتفق عليه الطرفان، مما يشجعهما على الوفاء بالتزاماتهما ضمن الاتفاقات السابقة ووضع تدابير بناء الثقة الضرورية لأي اتفاق سلام فعال. وستشرف الولايات المتحدة، في إطار دورها التاريخي كطرف ثالث في المفاوضات، على لائحة الخطوات التي يجدر بالطرفين اتخاذها تطبيقًا لهذه الخطة. كما سيضطلع الاتحاد الأوروبي والمجتمع الدولي بدور إيجابي في بناء الروابط بين الشعبين.

وتحقق خطة السلام المقترحة هذه الحلم الفلسطيني بتقرير حقه في إقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية والحلم الصهيوني بتقرير الشعب اليهودي مصيره في دولة إسرائيل وعاصمتها القدس الغربية مغ استمرارية بقاء المدينة موحدة مما ينزع فتيل المظالم الشرعية التي تؤجج كره الفلسطينيين للصهيونية. ومن خلال تحقيق هذا الإنجاز، لن يبقى ترسيم الحدود النهائية بين إسرائيل وفلسطين مسألة مثيرة للجدل بهذا القدر، إذ إن الحدود المقترحة في هذه الخطة تحدد ببساطة أماكن عمل الأجهزة الأمنية الإسرائيلية والفلسطينية – ولا تقيم حاجزًا مدنيًا يمنع الإسرائيليين والفلسطينيين من التنقل في أرجاء وطنهم التاريخي.

ومن الممكن – بواسطة تفكير مبتكر وإبداعي واقتراحات متطورة وخارجة عن المألوف – وارساء الثقة أن ينتهي هذا الصراع. لكن كي يقبل العالم العربي والاسلامي بدولة يهودية وبحق اليهود بتقرير مصيرهم وبمنحهم حقوقًا سكنية في الأرض المقدسة، يجب أن يبادلهم اليهود هذه المبادرة من خلال الاعتراف بالسيادة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية.

وسيكون هذا الاعتراف المتبادل بالسيادة وحق تقرير المصير في الأرض المقدسة مقدمة لليهود والفلسطينيين ليؤمنوا مجددًا بإمكانية التسوية والسلام والتعايش.

ومن شأن القبول بخطة السلام هذه أن يشكّل تقدمًا في عملية إقامة علاقات بين إسرائيل والفلسطينيين والعرب وكذلك العالم الاسلامي.

هذه خطة سلام ربح-ربح تعود بالفائدة على الشعبين.

ملاحظة المحرر: نظرًا إلى أن هذا المقال هو خطة سلام بديلة، لا بدّ من تسليط الضوء على عدة نقاط رئيسية مشتركة ومتعارضة مع الاقتراح الحالي الذي قدمته إدارة ترامب. فمن جهة، توافق خطة الدجاني على جانبًا مثيرًا للجدل لخطة السلام الأخيرة، وهو الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية. وفي المقابل، تعدل هذه الخطة البديلة ما تضمنته خطة ترامب بشأن القدس واقتراحات الحدود الراهنة التي دعت لها صفقة القرن، لتقدم عوضًا عن ذلك فهمًا مختلفًا جوهريًا لحدود الدولة والبلديات – بما يتواءم بشكل أكبر مع نموذج الاتحاد الأوروبي. وبخلاف الخطة الأمريكية المقترحة للسلام التي تنادي بإقامة دولة فلسطينية في نهاية المطاف، فإن خطة الدجاني تدعو الى إقامة الدولة الفلسطينية في باكورة المسيرة السلمية، كشرط مسبق ضروري للدخول في المزيد من المفاوضات.

معهد واشنطن