انتقدت شركات النفط الروسية (ما عدا “روسنفت”، أكبر شركة نفط روسية) عدم موافقة الحكومة على مشروع تخفيض إضافي للإنتاج الذي اقترحته دول أوبك وحلفاؤها من المنتجين المستقلين، كما انتقدها خبراء نفطيون وإعلاميون وأساتذة جامعات. وسبب الانتقادات بسيط جداً: استفادت روسيا كثيراً من التعاون مع السعودية ودول أوبك لدرجة أن احتياطات الحكومة النقدية ارتفعت بشكل كبير في فترة التعاون منذ عام 2016 بسبب تحسن أسعار النفط. إذا كانت روسيا مستفيدة من التعاون، لماذا رفضته الآن، ولماذا تعنّتت كثيراً في موقفها؟
البعض يقول إن السبب هو أنها لا تريد رفع أسعار النفط وقت انخفاض الطلب عليه. ولكن يرد على ذلك بأننا في وضع نادر وهو أن الطلب سببه مرض كورونا وليس أزمة اقتصادية أو انخفاض في الدخل. فإذا كان الناس سيحبسون أنفسهم في بيوتهم تخوفاً من كورونا، فإنهم سيفعلون ذلك لو كان سعر النفط 10 أو 100 دولار للبرميل. والأمر الثاني أن التخفيض لن يرفع الأسعار ولكن سيمنعها من الانخفاض، كما أنه سيمنع ارتفاع المخزون بشكل يسمح بتحقيق التوازن في النصف الثاني من العام بعد انتهاء أزمة كورونا.
ويرى آخرون أن الهدف هو إبطاء نمو النفط الصخري الأميركي. فكل الاجتماعات التي انتهت بالتخفيض كان أحد أسبابها الرئيسة نمو النفط الصخري، فإذا تم تخفيض نموه، فإنّ الحاجة للاستمرار بالتخفيض ستتوقف. إلاّ أنّه ليس واضحاً أن هذا هو فعلاً الهدف الروسي لسببين. الأول أن النمو في إنتاج الصخري كان واضحاً أثناء اجتماعات ديسمبر (كانون الأول)، ومع ذلك وافقت روسيا على تعميق الإنتاج. أما الآن، فكل الدلائل تشير إلى تباطؤ إنتاج الصخري، لهذا، فإن فكرة قيام موسكو بإبطاء الصخري فيها شكوك. السبب الثاني هو أنّ روسيا وافقت في الاجتماعات الأخيرة على تمديد اتفاق ديسمبر الذي ينتهي في آخر مارس (آذار) إلى نهاية يونيو (حزيران) (ولكنها عارضت أي تخفيض إضافي، وهو أمر أقرّته كل الدول الأخرى). فإذا كانت روسيا تريد محاربة الصخري، لماذا وافقت على تمديد اتفاقية تتضمن تخفيض الإنتاج بـ 2,1 مليون برميل يومياً. إذاً، هناك سر ما للتصرف الروسي.
إلاّ أنّ البعض يرى أن الانتقام من النفط الصخري هدفه الضغط على الرئيس الأميركي دونالد ترمب لإلغاء العقوبات التي فرضها على الفرع التجاري لشركة “روسنفت”، وعلى أنبوب غاز “نورد ستريم”، بينما يرى آخرون أنها جزء من حرب “الغاز” بسبب مزاحمة الغاز المسال الأميركي للغاز الروسي في أوروبا.
ويظن البعض أنّ تصرف الروس سببه جهل كبير بالسوق ومعلومات خاطئة، وحديثهم وحوارهم يدلّ على ذلك، إضافةً إلى تناقضات سياساتهم، التي سيتم استعراضها أدناه.
خلاصة الأمر أنه إذا لم يكن الموقف الروسي نابع عن جهل، فإنّ هناك سراً ما.
تناقضات السياسة الروسية
1- عدم الموافقة على تخفيض إضافي للإنتاج يعني ارتفاع المخزون بشكل كبير. هذا الارتفاع في المخزون يعني انخفاض واردات الدول المستهلكة في النصف الثاني من العام. بالتالي، استمرار أسعار النفط في الانخفاض. أما إذا وافقت على تخفيض الإنتاج كما اقترحت المملكة ووافقت عليه كل الدول الأخرى، فإن الأسعار ستتوقف عن الهبوط بسبب فيروس كورونا، ثم سيجري السحب من المخزون في النصف الثاني من العام، الأمر الذي سيرفع أسعار النفط. هذا يعني أن نتاج السياسة الروسية هو استمرار انخفاض أسعار النفط في النصف الأول، واستمرارها في مستويات منخفضة في النصف الثاني.
2- إذا كان هدفهم الضغط على ترمب لرفع العقوبات الاقتصادية التي فرضها منذ حوالى أسبوعين على ذراع شركة “روسنفت” التجارية، أو التي فرضها على أنبوب “نورد ستريم”، فإنّ جهودهم فاشلة لأنهم قدموا لترمب هدية لا تقدّر بثمن قبل الانتخابات الأميركية: انخفاض أسعار البنزين.
3- تجاهل الأطراف الأخرى وردة فعلهم هو جزء من التناقضات أيضاً. فافتراضهم أن أسعار النفط لن تنزل عن 40 دولاراً للبرميل في ظل عدم الاتفاق على تخفيض إضافي هو نوع من السذاجة، كذلك ظنهم أنهم سينتجون بطاقتهم القصوى، بينما ستقوم الدول الأخرى بتخفيض الإنتاج. ورأينا بأم أعيننا أمس كيف انخفضت الأسعار إلى أقل من ذلك بكثير.
4- إذا كان هدفهم أن يوقفوا نمو الصخري، فإنّ هذا لا يعني عدم حاجتهم إلى تحالف أوبك+، بخاصة أنّ النفط الصخري هو مشكلة ضمن مشاكل عدّة في أسواق النفط. إلاّ أنّهم لم يدركوا أن غالبية الشركات قد لجأت للتحوط وباعت جزءًا كبيراً من إنتاجها المستقبلي بأسعار محدّدة سلفاً. بالتالي، فإنّ القدرة على إبطاء نمو إنتاج النفط الصخري محدودة في المدى القصير. ويبدو أنهم لايعرفون أن المهم في القطاع الخاص عند انخفاض الطلب هو التكاليف المتغيّرة وليس الكلّية، والتكاليف المتغيّرة للصخري تتراوح بين 18 و 22 دولاراً للبرميل. هذا يعني أن بعض عمليات الصخري لن تتوقف إلاّ إذا انخفضت أسعار النفط تحت 22 دولاراً للبرميل. فهل تستطيع شركات النفط الروسية أن تستثمر للحفاظ على إنتاجها بأسعار بحدود 20 دولاراً للبرميل، في الوقت الذي تبلغ تكاليفها الكلّية 50 دولاراً للبرميل. بعبارة أخرى، يمكن لروسيا تخفيض إنتاج النفط الصخري بشكل ملحوظ، ولكن بأي تكلفة؟
5- إذا كان الأمر يتعلق بالمنافسة في أسواق الغاز بين الولايات المتحدة وروسيا، والغاز المسال الذي يصل إلى الشواطئ الأوروبية، فإنّ الحكومة الروسية تجاهلت مشكلة وهي أن الغاز الأميركي مسعّر في سوق حرّة، بينما سعر الغاز الروسي في أوروبا مرتبط بالنفط. وطالما أنّ روسيا لا تستطيع السيطرة على الأسعار في سوق حرّة في الولايات المتحدة، فإنّها لا تستطيع أن تفعل شيئاً للتخفيف من حدّة المنافسة الأميركية. وإذا كان الهدف تخفيض إنتاج النفط لتخفيض إنتاج الغاز المصاحب، فإنه يبدو أن الحكومة الروسية لم تنتبه إلى أمرين. الأول أن غالبية الغاز المصاحب في الآبار الجديدة يتم حرقها، وبالتالي، فلا أثر له في السوق على كل الحالات. ولكن بفرض أنه لا يُحرق، فإنّ انخفاض إنتاج الغاز يرفع الأسعار ويشجع المنتجين على إنتاج المزيد. ماذا استفادت روسيا إذاً؟
6- إذا كان الهدف هو الضغط على الصخري كي يتم الضغط على ترمب لرفع العقوبات عن شركة “روسنفت” للتجارة وخط أنابيب “نورد ستريم”، فإنّ الروس لم يدركوا أن اهتمام الرئيس الأميركي بأسعار البنزين المنخفضة أكثر من اهتمامه بمنتجي الصخري، تماماً كما أوضحت تغريدته أمس. فهو يعلم أن منتجي الصخري سيصوتون له في جميع الحالات على الرغم من خسائرهم الكبيرة، لأنّ البديل، المرشح الديمقراطي، أسوأ.
خلاصة الأمر، إذاً لا يمكن شرح الموقف الروسي بالجهل، فإنّ هناك أمراً ما. وستُبدي لكَ الأيام ما كنتَ جاهلاً.
أنس بن فيصل حجي
اندبندت العربي