لا نحتاج في هذا المقال إلى العودة إلى الخطوات الاحترازية الواجب اتخاذها في وجه الخطوات التصعيدية، التي يخطوها فيروس كورونا المستجد، كوفيد 19. لكن إذا كنا استنزفنا الجانب الصحي من الموضوع تقريبا، من حيث التحليل الصحافي أقصد، وليس طبعا من زاوية اتباع النصائح الصادرة عن الأطر الصحية، يبقى الموضوع الاقتصادي من أهم المواضيع الجانبية المصاحبة لإشكالية الكورونا.
بالتأكيد، يمكن البدء بالتوقعات الاستشرافية المعتادة، التي لن تضيف شيئا إلى ثوابت معروفة، من باب أن أي منحى تصاعدي من قبيل الحجر الصحي بأنواعه أو – لا قدر الله – دخول المستشفى لأمد طويل، وقائع ستقيد الحركة الاقتصادية للبلدان وبالتالي تنافسيتها. لكن بوسعنا أيضا أن نعتمد على التحليل المعاكس تماما، لنرى أن دفة التدبير الاقتصادي للأمور هذه يمكن أن تتحول من أقصى إلى أقصى، عملا بمقولة «مصائب قوم عند قوم فوائد».
أجل، فأكثر ما نستوعبه مما يتداوله الاختصاصيون في اللقاءات الإعلامية اللامتناهية عن الموضوع، الحديث عن حصيلة الضحايا، ذات التحيين المتواصل مع الأسف، والحديث الموازي عن التدرج في الإجراءات الوقائية التي تفرض نفسها، خاصة في حالة تخطينا عتبة ما يسمى بـ «المستوى الثالث»، أي مستوى انتشار الوباء الأقصى. لكن ما يبدو أقل إلماما وإحاطة من المتابعين، رغم تمام علمهم بالأمر، أن مصدر الوباء إنما هو أكبر قوة اقتصادية في العالم، ما يعني عمليا أن بيت الداء يكاد يستفرد بصناعة أدوات علاجه، فمن أين تأتي الكمامات أصلا، ومن أين تأتي معظم الأدوية التي نتطبب بها، انطلاقا من معالجة زكام متواضع، انتهاء بأمراض متدرجة الخطورة، نكافحها بمضادات مختلفة التأثير، دخلنا مرحلة البحث عن أنجعها لمصارعة فيروس يملأ الدنيا ويشغل الناس، في انتظار اختراع التلقيح المناسب الذي سيطول حتما؟ أين تأتي أصلا ومن دون استثناء مقومات موضوع الساعة إن لم يكن من الصين؟ من الصين التي دعينا إلى طلب العلم فيها، إلى طلب العلم لنصنع ونتتج ونخترع بدورنا، فتدخل تلك الحلقة الحميدة باقي مناطق العالم.
لقد تعدت مسألة فيروس كورونا المستجد الجانب الصحي، لتشمل عبر الوسيط الاقتصادي، الجانب الثقافي. وهنا لا ريب في أن الأجيال القادمة ستتحدث عن درجة الخطورة التي أوصلتنا إليها «التبعية الاقتصادية»، هذا المصطلح الوارد في قلب كل درس مسؤول في التاريخ المعاصر والعلوم السياسية. ليس كلامي على سبيل التشاؤم، فلنعتبره على سبيل التشاؤل، تكريما للكاتب إيميل حبيبي وشخصيته «سعيد»، لكن أيضا إيمانا مني بأنه لم يفت الأوان بعد. لكن قناعتي في المقابل، أن موضوع الكورونا سيفتح عهدا جديدا تتجاوز أهميته المخاض الراهن، الذي يفرض مقاربة غير مسبوقة لظاهرة ليس عمودها الفقري مكشوفا بعد إلى حد بعيد، لأن الدوائر العلمية، وبالتالي الإنسانية، على معرفة بالداء في مجرد طور التشكل.
مخاض.. إنها، في نظري، الكلمة المناسبة تماما، أولا لأن البحث العلمي محشور في زاوية، ضرورة تحقيق اختراق جديد بأقصر وقت. وثانيا، لأن الواقعة، التي أحبذ ألا اسميها كارثة (مع كامل اعترافي بدراماتيكية وضع ضحايا المرض والأسر المنكوبة وخطورة الفترة التي نجتاحها جميعا) تعجل بالتحدي الاقتصادي الجديد، أي التجرد من التبعية الاقتصادية للصين (لا من التعاون معها)، فتحا لباب جديد، كان ينبغي طرقه منذ زمان، ألا وهو تشييد صرح عولمة مسؤولة متعددة المنتجين، متعددة المخترعين، متعددة المتنافسين في سبيل المصلحة الجماعية، بعبارة أخرى، عولمة متعددة الأقطاب، عرفت