في 19 شباط/فبراير، أي قبل يومين من إعلان الحكومة الإيرانية رسمياً عن وصول فيروس كورونا إلى البلاد، توفي رجل أعمال مصاب بالفيروس كان قد عاد مؤخراً من الصين إلى قم. ويبيّن مكان وفاته وتوقيتها كيف لعبت المدينة الشيعية المقدسة والزعماء الدينيون والمؤسسات الدينية الذين يعتبرونها موطنهم دوراً كبيراً في الانتشار السريع للمرض بشكل غير متكافئ داخل إيران مقارنة بالدول الأخرى. فكيف حصل ذلك وما هي تداعيات هذا الأمر على الوضع الراهن للمؤسسة الدينية وعلاقتها بالنظام وابتعادها عن شريحة كبيرة من المجتمع الإيراني؟
من أزمة إلى أزمة
لقد ضرب الوباء إيران في أسوأ وقت ومكان. فقد برز بعد أزمتين محليتين كبيرتين – حركة احتجاجات البنزين التي انطلقت في تشرين الثاني/نوفمبر وإسقاط الجيش لطائرة مليئة بالمواطنين الإيرانيين في كانون الثاني/يناير – وقبل الانتخابات البرلمانية في شباط/فبراير. فضلاً عن ذلك، شكّلت قم نقطة انطلاق الفيروس، وهي العاصمة الإيديولوجية والمركز الروحي للمسلمين الشيعة في جميع أنحاء العالم – بمن فيهم العديد من حاملي المرض المحتملين من الصين.
وبالإضافة إلى دعمهما لبيئة عامة من عدم الاستقرار، دفعت الأزمتان اللتان سبقتا الفيروس بشريحة كبيرة من الشعب الإيراني إلى التشكيك على الفور ببيانات الحكومة وإحصاءاتها واستراتيجيات احتوائها للفيروس. فمن رفض النظام الاعتراف بعدد المحتجين الذين قتلهم (أكثر من 1500 وفقاً لوكالة “رويترز”)، وتنصله من مسؤولية كارثة إسقاط الطائرة ومعاملة عوائل الضحايا بشكل سيئ وصولاً إلى إظهاره لا مبالاة كبيرة حيال الإقبال المنخفض تاريخياً خلال انتخابات الشهر الماضي، رسّخ هذا النظام من دون قصد حتى مستوى أعمق من انعدام الثقة في أوساط الشعب. ولا يشمل هذا الشعور كفاءة القيادة في أوقات الأزمات فحسب، بل أيضاً التزامها بواجباتها القانونية ومبادئها الأخلاقية.
ومن بين التداعيات العملية لانعدام الثقة هذا هو تجاهل المواطنين حالياً للتوصيات الصادرة عن المؤسسات السياسية والدينية قدر استطاعتهم، وإصغائهم بدلاً من ذلك إلى حدسهم الخاص أو استشارتهم مصادر بديلة. على سبيل المثال، في طهران وغيرها من المدن، رفض الآباء إعادة أطفالهم إلى الدراسة بعد أن قررت الحكومة إبقاء المدارس مفتوحة.
“الجنة المقدسة” تصبح مركز تفشي الفيروس
لم تكن العاصمة أو المراكز السياحية نقطة تفشي الفيروس في إيران، بل مدينة قم الغير جذابة للكثير من الناس نظراً لموقعها في وسط الصحراء وبيئتها الاجتماعية المتشددة. وكانت الصفة الدينية التي تتمتع بها المدينة – “عش آل محمد ومأوى شيعتهم” – تهدف إلى طمأنة المؤمنين في جميع أنحاء العالم بأنها محصنة ضد الأوبئة وغيرها من الكوارث. وبالفعل، يبدو أن اقتناع الشيعة بمناعة قم ضدّ الكارثة راسخاً بقدر إيمان المسلمين الأوسع بمكة المكرمة والمدينة المنورة.
ويقيناً، تعرضت قم للدمار مراراً وتكراراً وتمّ إخلاؤها على مرّ القرون بسبب الصراعات البشرية والكوارث الطبيعية على حد سواء. على سبيل المثال، تسببت المجاعة الكبرى في الفترة 1870-1872 بتراجع عدد سكانها بنسبة 30 في المائة. غير أن قدرتها على الصمود والنهوض من جديد لم تسهم سوى في ترسيخ صورتها الأسطورية في أذهان المؤمنين – وهي قناعة لا تنبع أصولها من تفاني المصلّين الفرديين فحسب، بل من شبكة معقدة من الثيولوجيا والمؤسسات الاجتماعية والموارد المالية وكذلك علاقات القوة السياسية التي يعيشون فيها. وإن ثبتت صحة التقارير الأولية حول انتشار فيروس كورونا، فإن مكانة قم بصفتها العاصمة الإيديولوجية للثورة الإسلامية قد ساهمت في جعلها مركز انتقال العدوى إلى سائر المناطق الإيرانية وسبع دول أخرى على الأقل.
إن القرارات غير المسؤولة بشكل خطير التي اتخذتها السلطات بشأن التدابير الوقائية في قم توفّر نافذة إلى توجه النظام نحو تصديق الأساطير من الناحية الدينية. وقد عارض كل من المرشد الأعلى علي خامنئي والمؤسسة الدينية التي يديرها التوصيات الطبية التي قدمتها لهما وزارة الصحة، بما فيها دعوات لإقامة محاجر صحية في قم. ويميلان إلى تبرير مقاومتهما بالإشادة بالمناعة الإلهية للمدينة، حتى أنهما ذهبا إلى حدّ تشجيع الناس على زيارة حرم فاطمة المعصومة المحلي والصلاة لشفاء المرضى بأعجوبة. وعندما أصرّ مسؤولو الصحة على فرض حجر صحي على الحرم نفسه، انضم محمد سعيدي – متولي عتبة السيدة فاطمة وأبرز ممثل ديني لخامنئي في قم – إلى السلطات الدينية الأخرى في رفض القرار، مما أدى إلى تأخير كبير في تطبيق التدابير الوقائية الضرورية للغاية.
وفضلاً عن تفاقم مشاعر الناس بالهلع والغضب، فمن المؤكد أن تؤدي هذه التطورات إلى توسيع الفجوة الثقافية بين المؤسسة الدينية وسكان المدن المثقفين من الطبقتين الوسطى والمتوسطة العليا في إيران. وفي السنوات الأخيرة، ساهمت المشاحنات القائمة
منذ وقت طويل بين رجال الدين الشيعة والطاقم الطبي في تغذية منحى كان سابقاً هامشياً، ألا وهو: رفض الطب الحديث من دون مساومة والترويج لـ “الطب الإسلامي” باعتباره العِلْم الحقيقي المستلهم من المعرفة الإلهية. وقام مسؤولو النظام بالترويج لـ “الطب الإسلامي” بشكل منهجي بالتوازي مع الرعاية الطبية الحديثة، رغم أن العبارة لم تستحدث منذ وقت بعيد وتفتقر إلى أي تقليد تاريخي أو شرعية تاريخية عميقة.
كما أن الجانب السياسي لمعارضة رجال الدين فرْض حجر صحي على قم يستحق الذكر: وبشكل خاص، المفهوم بأن “أيادي العدو الخفية” كانت وراء التوصيات الصحية الطارئة الصادرة عن مجلس الوزراء. وكما ذكر سعيدي في خطاب ألقاه في 22 شباط/فبراير، “لا أحد يسمح للعدو بتصوير قم على أنها مدينة غير آمنة؛ هزيمة قم هي حلم ترامب الخائن ومرتزقته المحليين، لكن هذا الحلم لن يتحقق حتى في قبرهم … والآن أصبح واضحاً أن هذا الرجل الخبيث والقذر والشيطاني [ترامب] استهدف قم كونها حرم آل محمد ومهد الثورة الإسلامية وملاذ شيعة العالم … [و] موطن أولئك الشجعان والأبطال والمخلصين للمرشد الأعلى. [ترامب] يريد أن يجعل من فيروس كورونا ذريعة لضرب مكانة قم الثقافية”.
المسلمون الصينيون والعولمة الشيعية
تسلّط الأزمة الحالية الضوء على المدى المذهل من العولمة الذي وصل إليه رجال الدين والمجتمع الشيعي في ظل الجمهورية الإسلامية. ولم تكن هذه العملية لتتبلور بهذه السرعة (إذا تبلورت إطلاقاً) من دون صعود عناصر من القيادة الدينية إلى السلطة السياسية ونفاذها إلى الثروة الوطنية. ففي حقبة ما قبل الثورة، كان عالم رجال الدين منغلقاً وهادئاً – وهي صفة قوّضت إلى حدّ كبير أنماط السفر المحلية والدولية للشخصيات الدينية الفردية، من بين تأثيرات أخرى. لكن الثورة فتحت الباب أمام مجال لا حدود له وبشكل لا يمكن تمييزه أمام رجال الدين، ولا يقل حجمه عن حجم الكرة الأرضية.
واليوم، تعتبر جامعة “المصطفى” إحدى أغنى المؤسسات في قم وأهمها، وقد بناها خامنئي ويتولى إدارتها، ولها عشرات الفروع داخل إيران وخارجها. وفي صفوف طلابها الذين يفوق عددهم الأربعين ألفاً، هناك العديد من الأجانب الذين لا يعتبرون طلاباً دينيين فحسب، بل مبشرين ضمن قوة الحملة الإيديولوجية للنظام. ووفقاً لرئيس “جامعة مشهد للعلوم الطبية”، محمد حسين بحريني، يُعزى معدل انتشار فيروس كورونا المرتفع في إيران جزئياً على الأقل إلى وجود 700 طالب ديني صيني في قم، مما يشير إلى أن بعضهم قد يكونوا حاملين الفيروس. وكما هو متوقع، نفى المسؤولون الدينيون ادعائه على الفور واستبعدوا احتمال وجود أي علاقة بين الفيروس والطلاب الدينيين الصينيين في المدينة.
وتستضيف مدينة قم أيضاً عدداً كبيراً من العمال الصينيين، ربما يفوق بكثير مجتمع رجال الدين. ولا تنشر الحكومة إحصائيات موثوقة حول آلاف المواطنين الأجانب المقيمين في إيران، وخاصة في قم، إلا أن السكان الصينيين في المدينة هم بلا شك مسلمون، إن لم يكونوا من الشيعة.
وتزعم مصادر إسلامية أن عدد المسلمين في الصين يناهز 40 مليون شخص، نحو أربعة ملايين منهم من الشيعة (معظمهم من الإسماعيليين أو الاثني عشر). ويتركز القسم الأكبر منهم في المنطقة الشرقية من سنجان (شينجيانغ) التي تضمّ شريحة سكانية كبيرة من الإيغور. ولطالما عانى الكثير من المسلمين الصينيين من القمع المنهجي والاضطهاد والتمييز وحتى الإقصاء من قبل الدولة الصينية. غير أن إيران ودول أخرى ذات أغلبية مسلمة ترفض عموماً انتقاد بكين علناً على ارتكاب مثل هذه المجازر أو تقديم دعمها السياسي للضحايا، وتمنح عوضاً عن ذلك الأولوية لعلاقتها مع الحكومة على المبادرات الإسلامية.
وفي الوقت نفسه، وجدت طهران سبلاً أخرى لممارسة النفوذ في أوساط المسلمين الصينيين. وتمشياً مع سياستها العامة لتصدير الثورة، تشمل هذه الآليات القيام باستثمارات دينية في المناطق الإسلامية من الصين، وبناء شبكات من النخب الموالية لإيران، ونشر نسختها من الإسلام الشيعي ضمن المجتمع الإسلامي الصيني الأكبر. وتشير تقارير غير رسمية إلى أن النظام الإيراني قد سهّل بدوره دخول المسلمين الصينيين غير المسجلين بهدف الخضوع لتدريب إيديولوجي في قم، حيث يعود بعضهم إلى وطنهم كمبشرين مموّلين من النظام.
لكن الوجود الصيني في قم يتخطى مستوى السكان بكثير. ويزور المدينة حوالي 2.5 مليون سائح أجنبي سنوياً، بمن فيهم الآلاف من الصينيين. وقبل ستة أعوام، بدأت المراكز الدينية في قم بتعليم اللغة الصينية، وقد توسّعت هذه البرامج منذ ذلك الحين لتشمل حوزات علمية في أصفهان ومدن أخرى. ومن بين الجهات الدينية التي تستقبل الآن طلاباً صينيين “معهد الإمام الخميني للبحوث العلمية” برئاسة آية الله محمد تقي مصباح-اليزدي.
التداعيات على السياسة الأمريكية
على المدى القريب، يجب على المسؤولين الأمريكيين استخدام محطات الراديو والتلفزيون الحكومية، ووسائل التواصل الاجتماعي والتصريحات العلنية وغيرها من المنافذ الإعلامية لنشر معلومات دقيقة حول وضع فيروس كورونا في إيران: على سبيل المثال، كيف وصل الفيروس إلى البلاد، وكيف انتشر من قم إلى المدن الأخرى، وكم بلغ عدد الإصابات [المسجلة]، وكيف استجاب النظام ورجال الدين له. كذلك، عليهم التفكير في سبل فعالة لمواجهة الكميات الهائلة من المعلومات الخاطئة والمضللة المرتبطة بالفيروس والتي يتمّ نشرها عبر مختلف شبكات التلفزيون والإنترنت، حيث سارع النظام والمعارضة على حد سواء إلى تسييس القضية لأغراض معاكسة. ومع ذلك، عليهم تجنب انتقاد المؤسسات الدينية مباشرة أو إثارة هلع الناس بشكل إضافي، والسماح بدلاً من ذلك بنشر الوقائع كما هي.
وعلى المدى الطويل، يجب أن تساعد الأزمة في تذكير واشنطن بأن رجال الدين يخضعون بالكامل لخامنئي، وعلى هذا النحو لا يجب اعتبارهم قناة بديلة للتواصل أو جهة فاعلة مستقلة محتملة إذا عمّت الفوضى في الجمهورية الإسلامية. ومنذ الثورة، حرص النظام باستمرار على إخضاع المؤسسات الدينية في إيران، حارماً إياها من استقلاليتها التقليدية ومسهلاً انتزاع الصلاحيات المتعددة الأبعاد والمتجذرة التي كانت تتمتع بها في الماضي. وفي المقابل، شهدت هذه المؤسسات نمواً هائلاً في ثرواتها، وفي الإجراءات البيروقراطية التي تطبقها، وفي الوظائف التي تشغلها في الدولة. وقد جعلها تعويلها على الأموال الحكومية والأعمال الخاصة أقل اعتماداً على جمع ضرائب دينية مباشرة من الناس – لكنه أبعدها أيضاً عن المجتمع، وكشف ضعفها الفكري، وقضى على مكانتها الماضية باعتبارها الوسيط الحصري للتعليم الديني والقيادة المجتمعية.
مهدي خلجي
معهد واشنطن