إذا عطست الصين ارتعش العالم، تبدو القاعدة صحيحة ومنطقية تماما، ويبدو العالم آخذا في التحول أكثر فأكثر إلى صناعة صينية خالصة، من الاقتصاد والتجارة والتكنولوجيا والتعليم إلى وباء «كورونا».
وبينما كانت منظمة الصحة العالمية، تعلن تحول «كورونا» إلى وباء عالمي، كانت الصين، التي بدأت منها غزوة «كورونا»، تعلن انتصارها المبدئي في بؤرة الإصابة المفزعة الأولى، في «ووهان» عاصمة إقليم «هوبي»، التي اجتاحها الوباء قبل خمسة وسبعين يوما، وظلت الأرقام تتصاعد فيها بالآلاف يوميا، إلى أن وصلت إلى ما يزيد على الثمانين ألفا، ثم تراجعت أرقام الضحايا في الأسابيع الأخيرة تدريجيا، إلى أن نزلت إلى خانة الرقمين في الوفيات اليومية، وتواصل التراجع إلى ما يقترب من حد التلاشي، وهو ما يعطي مصداقية هائلة لدقة البيانات الصينية، التي تتوقع إعلان الصين قريبا كدولة خالية من فيروس «كورونا» .
بدت القصة واحدة من معجزات الصين التي لا تكف عن إبهار العالم، فمع الأيام الأولى من العام الجاري، أتي خبر «كورونا» السيئ من الصين، وبدت القصة كحملة اجتياح بيولوجي، تهدد بقصف أعمار عشرات الملايين من الصينيين، وتعددت الروايات عن منشأ الوباء، وسرت حالة من التنمر ضد الصين وأهلها، مع أفراح وموجات شماتة لا تخفى، واستبشارات ملتاثة، عبّرت عن شعور مجنون بالارتياح، وآمال عند الكارهين، بقرب سقوط النهوض الصيني العارم، لكن الصين، وعلى طريقة مفاجآتها المدوية، التي تهزم الأساطير المكذوبة، قلبت الموازين كالعادة، وقدّمت درسها لمن يريد أن يتعلم، وواجهت الخطر المحدق بشجاعة وتصميم وتعبئة وعلم وتكنولوجيا، واتخذت إجراءات غير مسبوقة، أغلقت المطارات والموانئ والمزارات السياحية الكبرى، وعزلت مناطق الخطر تماما، وألزمت عشرات الملايين بيوتهم، وقادت حملات تطهير وتعقيم مبهرة لمدن مكتظة بملايين الناس، وأنشأت مستشفيات على أرقى مستوى في أيام، ونجحت شركاتها العظمى في توفير أكبر ميزانيات الدنيا في التجهيز والتطهير والعلاج، بينما نجحت الدولة في التجييش الشعبي العام، وأعلنت من البداية، أن شهر مارس/آذار 2020، سوف يشهد انحسار الوباء في الصين، وهو ما تحقق بالفعل، وكانت زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى «ووهان»، إشارة مباشرة إلى النجاح الذي جرى، وإلى التعافي التام لتسعين في المئة من المصابين، وبطرق علاج مبتكرة، سبقت الصين إليها، وإن كان أمرها مستغلقا حتى تاريخه، وعلى طريقة ما يقال عن استخدام بلازما المصابين، أو توليفات من أمصال وأدوية سابقة لوباءات وأمراض «الإيدز» و»إيبولا» و»سارس» وغيرها، إضافة إلى طرق أخرى تنتمي لعالم الطب الصيني التقليدي، وربما لن تمضي سوى أيام أو أسابيع، حتى تعلن الصين انتصارها الكامل، وتغدو قبلة العالم في طلب الشفاء، بعد أن اجتاح وباء «كورونا» جغرافيا العالم المتخلف والمتقدم، وكادت تختفي أخبار الصين كمركز للوباء، بينما صارت الأخبار الأولى المرعبة، حكرا على «إيران» و»إيطاليا»، ودول أوروبية أخرى، وحتى أمريكا الأغنى، التي قيل إنها دبرت الحرب الجرثومية، صارت طعاما سهلا للوباء، وارتبكت خطوات إدارتها في مواجهة الخطر الزاحف، وصارت مثيرة للسخرية، تماما على نحو ما تغري به في العادة تغريدات الرئيس المهووس ترامب.
وقد لا نريد هنا الدخول في دوامات «كورونا»، ولا في سيل الأخبار والتقارير والتفاسير والتخاريف، التي تتشاركها مليارات البشر اليوم، وعلى مدى النهارات والليالي بغير انقطاع، والتي يصور بعضها وباء «كورونا» كأنه يوم القيامة، مع أن العالم وتاريخه، شهد أوبئة أكثر فتكا وتدميرا، وراح ضحيتها مئات الملايين من الناس، بينما الصين التي اجتاحها وباء «كورونا» أولا، لم يمت فيها بالمرض المستجد، سوي أكثر قليلا من ثلاثة آلاف شخص، من بين عدد سكانها المتجاوز بكثير لحاجز المليار ونصف المليار نسمة، وقد لا ندعو هنا إلى تهويل ولا إلى تهوين، فسوف تمضي القصة كلها إلى نهايتها في وقت قريب، وأخطر ما فيها هو الفزع العام، الذي تشارك في صنعه، سيولة وسهولة وتقدم وسائل الاتصال الشخصي، التي حولت مليارات البشر مع مليارات الموبايلات، إلى علماء وأطباء وخبراء ومفتين، خيل إلى بعضهم، خاصة في عالمنا العربي والإسلامي الموبوء بالخرافات والتخلف المادي والعقلي، أنه دعا على الصين بالسوء، فأصابها ما أصابها عقابا من الله، وهو ما يوجد مثله، حتى في العالم الغربي المتقدم صناعيا وتكنولوجيا، فوباء الخبل متاح للجميع، لكن فرص النجاة ليست متاحة بهذا القدر من التساوي، ولا ممكنات الأخذ بالأسباب كما يأمرنا الله، ولا تجاوز الخطر بالكفاءة نفسها، ولا قلب المحنة إلى نعمة، وعلى نحو ما فعلت الصين، التي قدمت درسا ملهما في العظمة الإنسانية، حين تتوافر الإرادة الصارمة المعظمة للإمكانيات، فنحن بصدد بلد معجزات حقيقي، يرد الاعتبار لمعنى الشرق الخير في صيرورة البشر، فالشمس تأتي دائما من الشرق، ربما الجديد، أن الإلهام ونور العقل صار يأتي من الشرق أيضا.
الصين بلد معجزات حقيقي، سيرد الاعتبار لمعنى الشرق الخير في صيرورة البشر، فالشمس تأتي دائما من الشرق
ظل العالم الحديث، على مدى قرون، ومنذ انطفاء وهج الحضارة الإسلامية الكبرى، وبالذات منذ سقوط «غرناطة» واكتشاف الأمريكتين، وعبر ما يزيد على خمسة قرون خلت، ظل العالم فيها أسيرا لفكرة تقدم الغرب وطغيان الغرب، وراحت أغلبية البشر ضحية لتحكم الغرب وكشوفه وغزواته، وحتى نهاية ما يسمى بالحرب العالمية الثانية، كانت السيادة للغرب الناهض والاستعماري معا، وكنا كغيرنا من الضحايا المفضلين، وعلى امتداد جنوب العالم ومشرقه، وعلى خرائط ما كنا نعرفه سياسيا بتسمية «شعوب آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية»، وكانت الصين من بين أكبر الضحايا، لكن نهاية الحرب الثانية، التي كانت حربا غربية بامتياز، وراح فيها ما يزيد على الستين مليون قتيل، أضعفت السيطرة الغربية في مركزها الأوروبي بالذات، ما أتاح فرصا لانتصارات حققتها حركات التحرير الوطني في الشرق والجنوب المظلوم، وهكذا تكونت سيرة جديدة، لعلها جديرة بتسميتها «عصر تحدي الغرب»، وكانت المنطقة العربية في قلبها، إضافة لعالم عدم الانحياز بمعايير زمانه، وإضافة للصين الكبرى، التي أكملت مسيرة الألف ميل بقيادة ماوتسي تونغ عام 1949، وانطوى التطور الذي كان جاريا، على معنى التحدي من دون تجاوز الغرب، الذي واصل التحكم بنوع مختلف تحت القيادة الأمريكية.
وبينما خرجت المنطقة العربية من السباق بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 وما بعدها، وتردت إلى عصر سيادة الغرب الأمريكي الإسرائيلي هذه المرة، فيما كانت بقاع أخرى في شرق العالم وجنوبه، تواصل سيرها الطامح لتجاوز الغرب، أي امتلاك طاقاته المادية والعلمية والصناعية والتكنولوجية، وفي تجارب عديدة ناجحة، وصلت إلى ذروتها بالمعجزة الصينية، التي حققت في أربعة عقود لا تزيد، ما حققه الغرب طيلة خمسة قرون وتزيد، ومنذ انطلاقة دينغ هسياوينغ، وتبنيه لفكرة اقتصاد السوق الاشتراكى، وبمعدلات تنمية خارقة، قفزت بصادرات الصين من نحو عشرة مليارات دولار في بداية ثمانينيات القرن العشرين، إلى نحو خمسة تريليونات دولار سنويا اليوم، بما جعل الصين، تستحوذ وحدها على 35% من التجارة في الدنيا كلها، وتتحول إلى أكبر ورشة صناعة وتكنولوجيا في تاريخ العالم.
وكثيرا ما يقال، إن الصين سوف تلحق بأمريكا، وربما تتجاوزها في عام 2030، وهذه قراءة مضللة بعض الشيء، فالحساب الحقيقي ليس بأرقام الناتج القومي مجردة، بل بتعادل القوى الشرائية، أي بحسابات ما يشتريه الدولار الواحد في الصين مقارنة بأمريكا، ووفقا لها، فقد تجاوزت الصين أمريكا بالفعل في قيمة الناتج القومي الإجمالي، وصارت بالفعل قوة العالم الاقتصادية الأولى من سنوات، وأمامها إمكانات توسع بلا حدود، وحتى الهزة التي أصابتها مع وباء «كورونا»، تبدو عابرة الأثر تماما، وبوسعها التعويض في أقرب فرصة عن خسائر تجارة بنسبة 11%، فالصين قوة كاملة الأوصاف، سلاحا واقتصادا وتكنولوجيا وبشرا مدربا، ونظامها التعليمي صار الأفضل في التصنيف العالمى، وبوسعها تحويل قوتها البشرية الجبارة، إلى مدد لا تنفد عوائده، وهي تصنع العالم الجديد في تواضع يليق بالقادرين الواثقين.
القدس العربي