بعد أن وصلت سيطرته على ما دون الـ20 في المئة من مساحة الأراضي السورية في العام 2015، واقتربت فصائل من المعارضة المسلحة من تهديد العاصمة دمشق، تدخل الحرب المدمرة في سوريا عامها العاشر، بوقائع مغايرة على المستويين العسكري والسياسي، لتعيد معها أسئلة “المستقبل والمصير” لتلك الهتافات الديمقراطية الأولى التي صدحت انطلاقاً من درعا (جنوب) منتصف مارس (آذار) 2011، مطالبةً بإصلاحات في بلد تحكمه أسرة الأسد منذ عقود بقبضة من حديد.
وفي وقت باشرت روسيا وتركيا الأحد تسيير أول دورية مشتركة في محافظة إدلب بشمال غرب سوريا حيث يخيم وقف هش لإطلاق النار بعد أسابيع من أعمال العنف، انطلقت آليات مدرعة وعناصر من الشرطة العسكرية الروسية من قرية ترنبة لتسلك الطريق الدولي “إم فور” بموجب الاتفاق الذي تم التوصل إليه الجمعة، على ما أوضحت وكالات تاس وإنترفاكس وريا نوفوستي الروسية.
فكيف تغيّرت الأوضاع؟ وهل باتت تقترب أكثر لصالح القوات الحكومية ما يعزز من اعتباره “نجاة سياسية” للرئيس السوري بشار الأسد من السقوط مثل أقرانه في عدد من الدول العربية الذين سبقوه؟ أم لا يزال “صراع السياسة” طويلاً لحسم الحرب؟
تتباين آراء المراقبين والمتخصصين، وإن أجمعوا على أن غمار الحرب تسبب في أكبر مأساة إنسانية منذ الحرب العالمية الثانية، وفق توصيف الأمم المتحدة، إذ سقط أكثر من 380 ألف قتيل، ونزح وشرد أكثر من نصف السكان داخل البلاد وخارجها، فضلاً عن تعرض مناطق كاملة للدمار.
وتشهد سوريا منذ منتصف مارس (آذار) 2011 نزاعاً دامياً، بدأ باحتجاجات شعبية سلمية ضد النظام مطالبة بالديمقراطية والحريات، سرعان ما قوبلت بقمع مارسته أجهزة النظام، قبل أن تتحوّل إلى حرب مدمرة تشارك فيها أطراف عدة.
هل نجا الأسد من السقوط؟
حسب عدد من المراقبين والمتخصصين، الذين تحدثت إليهم “اندبندنت عربية”، تباينت الآراء حول تقييم مستقبل نظام الرئيس السوري بشار الأسد بعد 9 سنوات من الحرب المدمرة في البلد، إذ يرى البعض أن مصير الرئيس لا يزال عالقاً على التطورات السياسية المقبلة، ومستقبل المسار التفاوضي “الضروري” لبدء مرحلة إعادة الإعمار، فضلاً عن ارتهانه إلى طبيعة التوافق أو الاختلاف بين أقرب حلفائه (الروس والإيرانيون).
ويرى آخرون أن استعادة القوات الحكومية نحو 70 في المئة من الأراضي في العام 2020 تمهّد لبسط كامل لسيطرته على الأرض بفضل دعم حلفائه وفشل فصائل المعارضة في تقديم بديل سياسي كامل وواضح منذ السنوات الأولى من عمر “الثورة”، ما يعني “النجاة من فخ السقوط”.
وحسب قاسم الخطيب، عضو لجنة مؤتمر القاهرة للمعارضة السورية، والقيادي في الائتلاف السوري، “لا يمكن أن ينتصر حاكم على شعب”، مضيفاً “حتى مع السيطرة على الأرض واستعادة مساحات واسعة تمكّنت فصائل المعارضة في سنوات سابقة من السيطرة عليها، إلا أن ما فعله نظام بشار الأسد في سوريا لا يمكن أن ينساه الشعب الذي خرج سلمياً مطالباً بإصلاحات وحريات، سرعان ما ردّ عليه النظام بالقمع الدموي”.
ويقول الخطيب، “لا تزال الأوضاع قابلة للانفجار السياسي في أي وقت بكل الأحياء التي يسيطر عليها النظام السوري وحلفاؤه، فالمطالب برحيل النظام باقية، والعمل متواصل لإنشاد سوريا جديدة ما بعد أسرة الأسد”.
ويضيف، “من يتمعّن المشهدين السياسي والأمني في سوريا اليوم يرى أنهما مرهونان بيد الخارج، وحكومة الأسد باتت بالكامل مرهونة لمصالح الروس والإيرانيين، وهو ما يعني تزايد احتمالات التصادم وتضارب المصالح قريباً”.
ومنذ سبتمبر (أيلول) 2015، انضمت روسيا رسمياً إلى الحرب الدائرة في سوريا لدعم قوات الأسد، وتمكّنت عبر نشرها لمقاتلات وقوات على الأرض، فضلاً عن الدعم العسكري الواسع، بمساعدة إيران من تغيير معادلة الصراع على الأرض ومساره ضد مقاتلي المعارضة.
في الاتجاه ذاته، يرى فراس الخالدي، عضو هيئة التفاوض السورية وعضو لجنة صياغة الدستور، أن “فكرة نجاة الأسد بصورة كاملة بعد مرور 9 سنوات على الحرب مستبعدة”، معتبراً أن مصير الرئيس السوري متوقف على “ضرورة المضي في المسار السياسي التفاوضي مع الأطراف السورية من أجل بدء مسار إعادة الإعمار”.
وحسب الخالدي، أيضاً، “فالأحداث السورية بدأت بمطالب سياسية في الإصلاح والديمقراطية ولا تزال باقية، ولم يتحقق منها شيء. إطالة أمد الصراع والنصر الزائف بالسيطرة على الأرض لا يعنيان انتهاء المطالب السياسية”، معتبراً أن “تحقيق سلام جاد وحقيقي على الأرض يتطلب المُضي في المسار السياسي التفاوضي، وهو ما يجعل عملية إعادة الإعمار مرهونة ببدئه”.
وأحدث النزاع منذ اندلاعه دماراً هائلاً، قدرت الأمم المتحدة في وقت سابق تكلفته بنحو 400 مليار دولار، بينما تشير تقديرات البنك الدولي في عام 2016 إلى أن تكلفة إعمار سوريا تصل 780 مليار دولار، إذا استمرّ الصراع حتى عام 2021، معتبرة أن عملية إعادة بناء البلاد ربما تستغرق أكثر من 50 عاماً، في حال توفّرت عدة شروط من بينها انعدام الفساد.
ووفق الخالدي، فإنّ “مصالح الحلفاء الرئيسين لنظام الأسد متضاربة ومرشحة إلى الصدام”، في إشارة إلى الروس والإيرانيين، مضيفاً، “يوجد إجماع وتوافق دولي وأممي على ضرورة المضي قدماً في المسار السياسي شرطاً لإعادة الإعمار، وهو ما يمثل امتحاناً لجميع الأطراف”.
في المقابل يقول فبريس بلانش، متخصص الشؤون السورية وأستاذ في جامعة “ليون الثانية”، إن “بشار الأسد فاز بالحرب”، معتبراً أن “عام 2012 كان عاماً حاسماً بالنسبة إلى سوريا، بمعنى أن المعارضة المسلحة لم تتمكن من بناء جيش قوي ومتماسك، ولا مشروع سياسي جدي للسوريين. في حين أنّ القوات الموالية بشار الأسد بقيت متماسكة إلى حد بعيد، وفارضة سيطرتها على المدن الكبرى، والمناطق المهمة والحيوية بالنسبة إلى النظام”.
وحسب بلانش، فإنّ “وتيرة الأحداث تسارعت بعد أن استعاد النظام مدينة حلب في 2016، وباتت تقود كل المؤشرات إلى أنّ القوات الحكومية ستستعيد تدريجياً السيطرة على غالبية المناطق المهمة في سوريا”، مشيراً إلى “محورية الدورين الروسي والإيراني في قلب موازين الصراع لصالح القوات الحكومية”.
وفي ديسمبر (كانون الأول) 2016، تمكّنت قوات الأسد وحلفاؤها من هزيمة فصائل المعارضة بأكبر معقل حضري لهم في حلب بعد أشهر من الحصار والقصف، في تأكيد الزخم الذي اكتسبه الأسد.
واستمر زحف القوات الحكومية على مناطق سيطرة المعارضة تدريجياً، لتتمكّن في أبريل (نيسان) 2018، بعد أشهر من الحصار والغارات الجوية من استعادة الغوطة الشرقية، ثم تلتها في يونيو (حزيران) من العام ذاته، من السيطرة على معقل المعارضة الجنوبي في درعا، ما مثّل “انتكاسة” لفصائل المعارضة.
ماذا عن المرحلة المقبلة؟
في غضون ذلك، ووفق لينا الخطيب، مديرة مركز كارنيغي في بيروت، فإنه “ومع اعتبار حتى اللحظة، أن نظام بشار الأسد صمد نحو تسع سنوات في الحرب الأهلية. إلا أنّ السؤال بالنسبة إلى أولئك الذين استثمروا في المستقبل السوري لم يعد عمّا إذا كان النظام سينجو من عدمه، إنما عن كيفية سعيه لتثبيت أركان قوته قبيل إنهاء الحرب التي تجتاح البلاد”.
وحسب الخطيب في مقال لها، بمجلة “فورين أفيرز”، “قد يكون الأسد دخل المعركة معتقداً أنّ النظام سيستطيع الاحتفاظ بالسلطة التي تمتّع بها قبل عام 2011، لكن لكي يثبت الأسد للعالم بأنه لا يزال يُمسك بزمام السلطة، وأن علاقات نظامه جاهزة للتطبيع، فلا شكّ أنه سيسعى لاستعادة الأراضي السورية كلها”، معتبرة أنه “بهدف الحفاظ على تماسكه الداخلي لن يلتفت نظام الأسد إلى حاجات الشعب السوري، فطموحه منصب على النجاة المحضة التي يمكن أن يكفلها الحفاظ على شبكة موالاة باتت شريان الحياة للنظام على مدار الصراع”.
ويذكر الخطيب، “نجح الأسد في هدفه المتمثّل في استعادة السيطرة على الأراضي السورية، لكنّ المشكلة الرئيسة هي الشمال، حيث يسيطر الإسلاميون على الشمال الغربي مقاومين تقدّم الأسد. أمّا الشمال الشرقي فيقع تحت هيمنة أكراد (قوات سوريا الديمقراطية) التي دحرت تنظيم داعش خارج المنطقة عام 2018، وأسست نوعاً من الحكم الذاتي بدعم من القوات الأميركية”.
وبعد إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترمب انسحاب قوات بلاده من سوريا، عقدت قوات سوريا الديمقراطية في أكتوبر (تشرين الأول) 2019، اتفاقاً مع الحكومة السورية يتيح لقوات النظام دخول مناطق الشمال الشرقي، ومواجهة الهجوم التركي. واليوم، تدير القوات الكردية المنطقة في ظل وجود الجيش السوري.
صراع مستمر والمأساة باقية
ورغم تباين آراء المتخصصين في شأن مستقبل الحرب المدمرة في سوريا مع بداية عامها العاشر، فإنهم يجمعون على تلك المأساة الإنسانية التي خلّفتها، واعتبرتها الأمم المتحدة أكبر المآسي الإنسانية في العصر الحديث منذ الحرب العالمية الثانية.
وحسب آخر إحصائية للمرصد السوري لحقوق الإنسان، فتسبّبت تسع سنوات من الحرب الدامية والمدمرة بسوريا في مقتل 384 ألف شخص على الأقل، بينهم أكثر من 116 ألف مدني (بينهم أكثر من 22 ألف طفل، و13 ألف امرأة).
وأحصى المرصد السوري الذي يعتمد منذ بدء النزاع على شبكة واسعة من المراسلين والمصادر في مختلف المناطق، مصرع أكثر من 129 ألف عنصر من قوات النظام والمسلحين الموالين لها من جنسيات سورية وغير سورية، أكثر من نصفهم من الجنود السوريين، وبينهم 1697 عنصراً من حزب الله اللبناني الذي يقاتل بشكل علني إلى جانب دمشق منذ العام 2013.
كما تسبب النزاع في سوريا بأكبر موجة نزوح منذ الحرب العالمية الثانية، واضطر أكثر من نصف سكان سوريا ما قبل الحرب إلى النزوح داخل سوريا أو اللجوء إلى خارج البلاد.
ويرتفع عدد اللاجئين حسب أرقام الأمم المتحدة إلى 5,5 مليون نسمة، بينما تخطّى عدد النازحين ستة ملايين نسمة، وفق أرقام فبراير (شباط) 2020.
ووفق الأمم المتحدة أيضاً، بات 83 في المئة من السكان يعيشون اليوم تحت عتبة الفقر، مقابل 28 في المئة قبل الحرب، بينما يجد نحو 80 في المئة من العائلات صعوبة في تأمين حاجاتها الغذائية الأساسية، حسب برنامج الأغذية العالمي.
وتواجه البلاد حالياً نقصاً في المحروقات، كما تشهد أزمة اقتصادية خانقة، وقدرت السلطات السورية خسائر قطاع النفط والغاز منذ 2011 بـ74 مليار دولار، الذي يعد أحد أبرز مصادر الدخل في البلاد.
أحمد عبدالحكيم
اندبندت عربي